يحلُّ علينا عيد الأضحى المبارك وهو أجمل مناسبة لأنْ نسامح بعضنا بعضاً، وستندهشون حين تدركون أنَّ التسامح هو للروح كما الصابون للجسد، يغسلها من أوساخها أيضاً، وأنَّ من لا يقدم عليه، يتعفن من الداخل بنقيضه الكراهية.
وستندهشون أيضاً أنَّ التسامح الذي صار الآن مبدأً إنسانياً تعتمده الأمم المتحدة، كان الدين الإسلامي قد سبقها وسبق الحضارة المعاصرة بألف وخمسمئة عامٍ في دعوته الى التخلي عن رغبتنا في إيذاء الآخرين لأي سببٍ حدث في الماضي، وأنْ نفتح أعيننا لرؤية مزايا الناس بدلاً من أنْ نحكم عليهم ونحاكمهم أو ندين أحداً منهم. وكان النبي الكريم "ص" قد ضرب أروع مثلٍ وأنبلَ موقفٍ في التسامح يوم فتح مكة وقال للذين حاربوه: "من دخل بيته فهو آمن ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن" مع أنَّ أبا سفيان كان من ألدّ أعدائه.
التّسامح الذي دعا إليه الأنبياء والمصلحون، لا يعني فقط العفو عند المقدرة، وعدم ردّ الإساءة بالإساءة، والترفّع عن الصّغائر، بل انه يعمل على السُّموّ بالنّفس البشريّة إلى مرتبة أخلاقيّة عالية، وله أهميّة كبرى في تحقيق وحدة وتضامن وتماسك المجتمعات، واحترام معتقدات وقيم الآخرين، والقضاء على الخلافات والصّراعات بين الأفراد والجماعات، ولهذا فإنَّه يعدّ ركيزة أساسيّة لحقوق الإنسان، والديمقراطية والعدل، والحريات الإنسانيّة العامّة.
التسامح يقوم على مسلمات فلسفيَّة بخصوص الطبيعة البشرية، أولها: لا يوجد إنسانٌ معدوم الخير، وثانيها: لا يوجد إنسانٌ لا يخطئ، وثالثها: أنَّ الإنسان مجبولٌ على الحب، ما يعني أنَّ من يسئ لغيره يعش ظروفاً صعبةّ أدّت به الى أنْ يسيء لمن حوله، لكنّه لا يجد من يعذره ويتسامح عن زلّته.
وما لا يدركه كثيرون أنَّ التسامح لا يعني فقط أنْ نسامح آخرين على أخطاءٍ ارتكبوها بحقنا، بل يعني أيضاً أنْ نسامح أنفسنا على أخطاءٍ ارتكبناها بحقها وأنْ نخلّصها من اللوم والإحساس بالخزي والشعور بالذنب الذي يصل أحياناً الى تحقير الذات.
سايكولوجياً، يعني التسامح إيقاظ مشاعر الرّحمة والتّعاطف والحنان، الموجودة أصلاً في قلبك، وإزاحة مشاعر الغضب والكراهية والانتقام نحو من أساء إليك.
ويعني فسلجياً أنَّ الجهاز العصبي للإنسان يكون في حالة التسامح مرتاحاً، لأنَّ الدماغ يكون مرتاحاً جداً في حالات الحب، بينما يكون مشوَّشاً متوتراً (مخبوصاً) في حالات الكراهية.
أعرف أنَّ بينكم من يقول: كيف يمكن أنْ أسامحَ من أخطأ بحقي أو تجاوز عليَّ؟. وأعرف أنَّ بين العراقيين من هو (أنفة) ولسان حاله يقول (والله لو يموت ما أسامحه) و(هو شنو حتى أسامحه). لكنك لو فكرت كيف ستكون مرتاحاً نفسياً إنْ بادرت أنت، وكيف سيكون ممتناً لك من أساء إليكَ.. لشكرتنا وفعلت.
وثمة حقيقة سايكولوجيَّة لطيفة جداً، هي أنك إذا أحببت أحداً خلقت له الأعذار عن خطأ أو سوء تصرفٍ صدر منه نحوك، وإذا كرهت أحداً فإنَّك تخلق له الأسباب وتعمل على تضخيمها. وكلاهما ناجم عن حسن الظن في الأولى وسوء الظن في الثانية، الذي يشيع في زمن الكراهية، ما يعني أنَّ علينا أنْ نبدأ بحسن الظن بالآخرين كخطوة أولى نحو التسامح، وأنْ نستثمر مناسبة العيد المبارك في أنْ نبادر نحن بمسامحة الآخرين، فبها سنردد جميعاً: يا محلا التسامح
بالعيد.