كامو.. المقاوم بين الحرية والعدالة

ثقافة 2023/06/22
...

  ترجمة: نجاح الجبيلي


كتب الناقد آدم غوبنيك من مجلة «نيويوركر» الأميركية هذه المقالة بمناسبة العثور على رسالة كتبها ألبير كامو في عام 1943 عن الأزمة الفلسفية للمقاومة الفرنسية وكيف يتردد هدف الرسالة في زمننا الحاضر.(م) يتحدث بعض الكتاب إلينا من خلال نافذة زمنهم - نحتاج إلى العودة إلى انتمائهم الماضي لكي نتأمل شكل أفكارهم - ويتحدث البعض الآخر إلينا بشكل دائم، ويقفزون، بسيولة مهادنة، من زمنهم إلى زمننا. وهذا الصنف الأخير عبارة عن مجموعة لا يمكن التنبؤ بها، ولا يبدو أن وجودها يعتمد على صفة معينة من الفِكر بقدر ما يعتمد على نوع من صفاء الروح. فمثلا، علينا أن نبذل الجهد لفهم كتابات جان بول سارتر الفلسفية، بتكوينها الغريب من النظرية الألمانية والسياسة الفرنسية المعاصرة.

إن قراءتها عمل (مجز). لكن ألبير كامو، زميل سارتر العظيم ومنافسه، ما زال يتحدث إلينا مباشرة، على الرغم من أن زمنه بعيد عن زماننا مثل زمن سارتر. لم يكن كامو مفكرًا واسعًا - أو حتى، بمعنى ما، مفكرًا أصليًا - لكنه اكتسب الصفة التي تثير الإعجاب كونهُ
«عميقاً».
ما قاله في كل موضوع كان دائمًا بسيطًا وعميقًا، وعادة ما يكون صحيحًا. نقرؤه على أنّه معاصر لنا، ونادرًا ما يخذلنا. ما زال يتمتع بشعبية كبيرة، كما قالت ابنته كاثرين منذ وقت ليس ببعيد، لأنه لا يكتب في محاولة للعثور على الحبكة في التاريخ والدخول في الجانب الصحيح منها ولكن باسم ضحايا
التاريخ.
رسالة غريبة
 أثيرت هذه الفكرة العام الماضي في فرنسا باكتشاف رسالة غير معروفة سابقًا لكامو، وُجدت في أرشيف شارل ديغول من قبل كاتب السيرة الذاتية والباحث فنسنت دوكلر، والتي أرسلها كامو من باريس إلى لندن في وقت ما من عام 1943. وهي غير موقعة ولكن يمكن التعرف عليها على الفور من خلال اللهجة والسياق، وعنوانها «من مثقف مقاوم» وقد تم اقتباسها من قبل صحيفة «لو فيغارو» Le Figaro الشهر الماضي. وتظهر الرسالة، بموافقة كاثرين كامو، في كتاب جديد لدوكلر عن والدها. إنها رسالة غريبة وفرنسية للغاية: تحتوي على سرد فلسفي رنان لأزمة المقاومة الفرنسية ومستقبلها، وتخطو برشاقة عبر حقول ألغام متعددة حول التضامن بين المقاومة، ومع ذلك فهي رسالة، رغم أنها متجذرة بعمق في زمانها، إلا أنها تنجح بذكاء غريب، في الحديث عن بعض المنازعات التي حدثت في عصرنا.
كان كامو، فرنسيّاً وُلِدَ في الجزائر، وقضى الحرب أولاً في ليون، حيث كتب مسودات روايته “الغريب”، ثم في باريس، حيث كتب افتتاحيات لمجلة المقاومة السرية “كومبا” Combat. (في الواقع، فإن نغمة الرسالة وأسلوبها قريبان جدًا من الافتتاحيات لدرجة أنها تبرهن على الفور باعتبارها له). كانت الظروف معروفة جيدًا. فالمقاومة، في نمط معقد، كان يقودها ظاهريًا من لندن زعيمٌ عسكريّ يميني هو ديغول، لكنها قاتلت في فرنسا عن طريق تحالف من القوى المحافظة والكاثوليكية والوطنية والمناهضة بشدة للنازية - جنبًا إلى جنب مع التجمع الهشّ المشكوك به للقوى الجمهورية “الليبرالية”، بما في ذلك الاشتراكيون القدامى، مدعومًا بمكون قوي من الشيوعيين الذين دخلوا بضراوة وشجاعة في المقاومة المسلحة بمجرد غزو الاتحاد السوفيتي، بعد أن خرجوا منذ بداية الحرب، في وقت اتفاق ستالين وهتلر.
     كتب كامو في الرسالة أولاً عن انهيار “النخبة” - الطبقة الفكرية والإدارية وحتى العسكرية التي كانت مصدر فخر للجدارة الفرنسية. يبدأ بملاحظة من رؤية متوازنة، يصعب الحفاظ عليها في أفضل الأوقات، في لحظات من هذا التوتر الوجودي. يكتب: “هنا ألخص بإيجاز مشاعر المثقف الفرنسي، في مواجهة الوضع الحالي كما يمكن ملاحظته من الداخل. بعبارة صريحة، ستكون مشاعر المرء الأولى هي الألم المبرّح. إن قناعتي العميقة هي أن شكل الحرب الذي تبنته العاصمة الفرنسية، والذي نشارك فيه جميعًا، يمكن أن يؤدي إما إلى ولادة هذا الشعب من جديد أو إلى سقوطه نهائيًا”.

النخبة والمقاومة
وبدا أن إخفاقات تلك النخبة كانت مسؤولة عن “الهزيمة الغريبة” لفرنسا، كما وصفها المؤرخ مارك بلوخ. (وكما قال بيكاسو لماتيس بأن الجنرالات الفرنسيين كانوا “أساتذة الفنون الجميلة” - أي جزء من نفس الكادر الإداري الأعمى.) يسأل كامو في الرسالة كيف يمكن للمرء أن يفكر في هذه النخبة الآن وكيف ينبغي إعادة تشكيل نفسها بعد أن يتم الانتصار في الحرب؟ يكتب كامو أن الأمة تموت لأن نخبتها تذوب بالمعنى الحرفي للكلمة. لكن هذه النخبة يمكن إعادة تشكيلها ليس من الطبقة التقليدية من الإداريين ولكن من نخبة جديدة من المقاومين، الذين تتجذر خبرتهم في “التجربة الحقيقية” والذين يحتفظون بواقعهم المحيط. وهو يشكو من أن المقاومة المباشرة والمسلحة داخل فرنسا لم تُقابل بعد بعمل عسكري من الخارج والسبب ربما هو المبالغة في تقدير موارد الجيش الفرنسي في المنفى ولكن الصبر نفد من “الجبهة الثانية” التي تم التبشير بها منذ فترة طويلة ولكنها لم تولد إلّا  في يونيو- حزيران 1944.

مركزيَّة الحريَّة
على أي أساس يمكن بناء مستقبل فرنسا؟ كان كامو ممزقاً بين النموذجين الأمريكي والسوفيتي - في الوقت الذي كانت فيه هيبة الاتحاد السوفيتي، بسبب نجاح جيشها ضد النازيين، في أعلى مستوياتها على الإطلاق. يتحدث كامو عن روسيا وتجربتها الاجتماعية لكنه يقول بدقة إن فرنسا لا يمكنها إلا “الاعتراف بصعوبة فكرة الدولة المسيطرة حيث تختفي كل الحرية”. يكتب أنه بينما يتعين علينا السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية من النوع الذي تظاهر السوفييت على الأقل بأنّهم يتبنونه، فإنّ مطالبات الحرية الشخصية لا يمكن استبعادها أو التعامل معها على أنّها ثانوية. وينتقد القوة الأمريكيّة الصاعدة التي يعرّفها بأنّها “مستقبل يشبه إلى حد بعيد الماضي”، وفيها “تحت ذريعة الحرية، توضع العدالة عمدًا في جانب واحد”، يواصل كامو إصراره، مع ذلك، حول مركزية الحرية باعتبارها الحامية الأساسية لضحايا التاريخ. ما هي إذن أيديولوجية المقاومة الفرنسية؟ يكتب: “إذا كان لدينا عقيدة نرغب في صياغتها، فسيكون ذلك توازناً بين العدل والحرية، ومن الصعب بالتأكيد تحقيقه، ولكن لا يمكن فعل أي شيء خارج نطاقه”. العدالة والحرية: ما هي المطالب التي يمكن أن تكون أكثر أساسيّة؟ ولكن، مع كامو، لا يمكن لبساطة الكلام أن تخفي أبدًا أهمية تعبيره ومخاطره الكبيرة. لقد أغراهُ النموذج السوفييتي، لكنه رفضه، معترفًا على أنه وحشي للغاية ومتآلف. كان ينظر إلى النموذج الإمبريالي الغربي كونه يقدّم المسار نفسه الذي قاد فرنسا إلى سقوطها، ودعا إلى ثورة في العدالة، إلى جانب تجديد دائم للحرية. في رؤية كامو - التي شاركها بلا شك من دون جدوى مع ديغول، الذي كان لديه أشياء أخرى أقل فلسفية لكي يقلق بشأنها - فإنّ العدالة، بما في ذلك العدالة الاقتصادية، لا معنى لها من دون التزام واسع مماثل بالحرية.

حقائق كامو
هذه الحقائق هي، أو يجب أن تكون، سهلة بما يكفي لتأكيدها اليوم. للقيام بذلك في ذروة الحرب - عندما كانت الضرورات البلاغية والسياسية قد أدت بالفعل بالعديد من الأشخاص الأذكياء إما إلى الولاء الأعمى لستالين أو، وهو الأسوأ، التعاون مع النازيين- فكانت رؤيا كامو واضحة. لم يكن من السهل قول كل هذا في وقت الأزمة. ومع ذلك، فهذه هي موضوعات كامو الدائمة: الحاجة إلى الحرية ليس كشيء مبتذل مألوف ولكن كشرط يملأ حياتنا؛ الحرية في التفكير لأنفسنا وألا تكون مختومة بالموافقة الجماهيرية؛ القبضة الخطيرة التي يمكن أن تخلفها علينا تجريدات الأيديولوجيا؛ مسؤولية رؤية الظلم بوضوح والتحلي بالشجاعة لمكافحته؛ الاستعداد للاستنتاج، كما فعلت شخصية جان تارو، في رواية كامو “الطاعون”، بأنّ “هناك أوبئة وهناك ضحايا، والأمر متروك لنا، قدر الإمكان، ألا نتحد مع الأوبئة. وكل هذه الحقائق ما زالت بحاجة إلى الاستماع إليها مرارًا وتكرارًا”.

الوسطيَّة ضروريَّة
كتب الباحث الرائد في أدب كامو روبرت زاريتسكي منذ وقت ليس ببعيد عن كيف يمكن أن تبدو وجودية كامو المهمة مجدداً، والتي كانت ذات يوم جزءًا آمنًا من الماضي، في أزمتنا الحالية. يشير زاريتسكي إلى أن الوجوديين يلصقون إضافة حاسمة على الادعاءات المعتادة التي نقدمها للشمولية الأخلاقية: “يجب علينا أيضًا أن نقبل أن الخيارات الأخرى من قبل أشخاص آخرين في الموقف نفسه يمكن أن تكون جيدة بالقدر نفسه ومبررة”. الإنسانية نفسها هي ما يجب أن نكافح من أجله - قبول جميع الحلول الوسط والإجراءات الجزئية الضرورية للوجود البشري، وعدم إدانتها بسرعة أو التسامح معها بسهولة.
يكشف كامو عن نفسه، بطريقته الخاصة، عن كونه معتدلاً أو وسطياً. الوسطية شرط ضروري، لكن البحث عن الوسط في كل مسألة هو أمر أحمق. أن تكون وسطياً لترى العالم كما هو، مجرد إحساس أساسي. في الوقت الذي كتب فيه كامو رسالته، لم يكن للمقاومة موقفٌ بلاغي من أجل  أن تهنئ نفسها، بل كانت مخاطرة حياة أو موت تتعرض لها كل يوم. ومع ذلك، ما زال مستعدًا لوضع حياته على المحك من أجل الرأي القائل بأنه لا يوجد خط واحد ليتبعه في الحياة.
اعتقدَ كامو، حتى في الحالات القصوى، أن النخبة المثقفة، التي تعني مجرد مجموعة من العقول الملتزمة، والتي تتجدد بالتجربة الحية، ضرورية لمجتمع عاقل. قراءته الآن - في وقت نحتاج فيه إلى تذكيرنا مرة أخرى بأن كل محاولة لإنقاص الحرية المدنية على أنها ثانوية أو غير ضرورية لتقدمنا هي فاحشة، إذ تكون كل محاولة لعزل فكرتنا عن التحرر من نموذج العدالة الاجتماعية محكوم عليها بالفشل.