مفهوم المثقف وإبدالاته المعرفيَّة عند إدوارد سعيد

ثقافة 2023/06/22
...

 حسن الكعبي

في كتاب (صور المثقف) الذي ضم محاضرات ريث، يطرح - ادوارد سعيد مفهوم المثقف الاشكالي الجدلي - انطلاقا من مراجعته - لغرامشي وجوليان بندا- إلا ان ادوارد سعيد في هذه المراجعة، كما يقول علي حرب «يقف موقفا وسطا مترددا بين صورتين للمثقف تقعان على طرفي نقيض: الصورة التي نجدها عند جوليان بندا، أي صورة المثقف المنزه عن الاهواء والغايات المترفع عن المصالح الشخصية، العملية والسياسية، باعتبار ان مملكة العدل والحق والحرية ليست من هذا العالم، والصورة التي نجدها عند غرامشي، أي صورة المثقف المنخرط في واقعه وصاحب المشروع الذي يسخر فكره وقلمه لتغيير المجتمع والعالم».
إنَّ قراءة صورة المثقف قراءة متدبّرة كما يطرحها - إدوارد سعيد - تسمح بإزالة هذا الالتباس، ونبرة الاعتراض عند المفكر الكبير - علي حرب - لأن ادوارد سعيد يعلن عن تحيزاته لنوع من المثقف هو المثقف الجدلي الذي يحدد له دوراً ووظيفة بقوله «وما دور المثقف الجدلي الاعتراضي، إلا دور الكشف عن النزاع وجلاء معالمه، فعليه أن يتحدى ويهزم الصمت المفروض والاستكانة التطبيعية اللذين تفرضهما السلطة الخفية حيث ومتى كان ذلك ممكنا».
بمعنى أن - إدوارد سعيد - يحدد دورا للثقافة وللمثقف في صناعة التنمية البشرية ونزعات التحرر والديمقراطية والسلام، وهو الدور الذي يعتبر الأهم بين وسائل انتاج المعرفة على مختلف تخصصاتها الاعلامية والسياسية فالمثقف حسب ادوراد سعيد «وهب ملكة عقلية لتوضيح رسالة، أو موقف، أو فلسفة، أو وجهة نظر، أو رأي، أو تجسيد أي من هذا» وفي سياق هذه الملكة فان فاعلية المثقف تغطي مساحات مختلفة من الوقائع وتؤثر في الواقع فالمثقف وفق ادوارد سعيد، هو رسولي يمتلك موقفا اخلاقيا وفلسفيا ويجسد هذه الموقف في صيغ وتمثيلات تسهم في بناء
الواقع.
إنّ سعيد في سياق هذه التحيّزات يعلن تقاطعه مع مفهوم غرامشي للمثقف، لكنه يرتحل بمفهوم غرامشي إلى مجال آخر يتقاطع فيه مع مفهوم جوليان بندا ليضفي بعدا جديدا على المثقف، هو البعد الاخلاقي الرسولي -أي أنه يحدث داخل المفهوم الغرامشوي ابدال معرفي- فتمثيلات المثقف للمواقف المسهمة في التنمية الاجتماعية تجد تجسيداتها ضمن تقسيمات ادوارد سعيد للمثقف بصوره المختلفة ضمن تصورات - غرامشي للمثقف العضوي وتصورات بندا للمثقف الرسولي- باعتباره - أي المثقف - حسب بندا من ضمن «عصبة صغيرة من الملوك ـ الفلاسفة الذين يتحلون بالموهبة الاستثنائية، وبالحس الأخلاقي الفذ، ويشكلون ضمير
البشرية».
 ومع أن سعيد يميل إلى تصورات غرامشي للمثقف، لكن ضمن اطار توسيع رقعة المثقف والتي تشمل عند غرامشي جميع العاملين في حقول انتاج المعرفة والتنمية الثقافية للمجتمع فضلا عما يعتقده غرامشي بضرورة تورط المثقف بالسياسة وعدم انسياقه (للسياسات الجماهيرية وللنزعات التمثيلية المتجسدة في صناعة المعلومات أو الإعلام، ولا يقدرون على مقاومتها إلا بمنازعة صور السلطة، ورواياتها الرسمية، وتبريراتها، التي تروّجها وسائل إعلام متزايدة) بمعنى التحرر من مهيمنات السلطة وكثافتها الايديولوجية فالمثقف يجب ان يمتلك استقلاليته ليجسد نزعته التحرريّة، لكن ذلك لا يعني ضمن مقصديات سعيد التضاد المستمر مع السلطة، بل إنه يقصد هتك الاستبداد في تمثيلات السلطة أو هو الذي يضع السلطة والسياسة موضع الكشف وتحت طائلة المساءلة كما يشير الروائي والناقد الراحل سعد محمد رحيم في كتابه (المثقف
الذي يدس أنفه).
يشترط ادوارد سعيد في المثقف لتحقيق استقلاليته والتأثير في الوقائع أن يكون هاويا وبالتضاد مع المثقف المحترف المندمج بالبيروقراطية السلطوية، وهذا التقسيم للسلطة في اطار الثنائيات المتعارضة هو نتاج ميل ادرواد سعيد لمتبنيات غرامشي في تصنيفه للمثقف (مثقف عضوي ومثقف تقليدي) لكن ميل ادوراد سعيد وانحيازه لتصورات غرامشي لم يجعله يتغاضى عن تصورات جوليان بندا التي يرى فيها ضرورة اخلاقية وقيمية في تمثيلات قيم العدالة والحرية والتسامح بمعنى ان ادوارد سعيد لا يتعامل مع تصورات بندا في سياق كونها تمتلك مخزونا متافيزيقيا يسهم في تحييدها عن دائرة الاهتمام، بل إن سعيد ينظر إلى ضرورة هذا المخزون في تصورات جوليان بندا في صناعة التراتبية القيمية والمنظومات التيولوجية التي تترشّح عنها مفاهيم التسامح والعدالة الإنسانية. إن ادوراد سعيد بهذا المعنى يطالب (المثقف أن يكون هاويا، وهذه الطبيعة تخوله أن يثير القضايا الأخلاقية، حتى في صميم أكثر النشاطات تقنية واحترافية. يستطيع الهاوي أن يكون أكثر راديكالية وإثارة فيخرق بحيويته «الروتين الحرفي
المحض».
لذا فعلى المثقف أن ينمي «نزعة الهواية» التي هي عبارة عن «نشاط يضطرم بالتعلق العاطفي والاهتمام، لا بالعائد المادي والتخصص الأناني الضيق». هذه الدعوة لوجود المثقف الهاوي وتفريق ادوارد سعيد بين المثقف الهاوي والمحترف ستسهم اسهامة كبيرة في التنمية الاجتماعية وتكريس ثقافة السلام ونبذ العنف في انساقها بالتضاد مع الثقافة الاحترافية المنتجة لثقافة العنف، فقوى الانتاج الثقافي كما انها قادرة على انتاج ثقافة السلام، فإنها أيضا قادرة على انتاج ثقافة العنف كما يرى - علي ناصر كنانة في كتابه الثقافة وتجلياتها - الذي يشير ضمنه الى هذا المعنى ويقترح لإنتاج ثقافة السلام وتضمنياتها الإنسانية ضرورة مواجهة قوى انتاج ثقافة العنف وبنائها المتماسك (المدعوم من قبل قوى لا تريد له ان يتهاوى لذلك يتعين علينا أن نبني ثقافة سلام  مؤهلة لخوض الصراع بأدوات قادرة على هدم ثقافة العنف بالكفاءة ذاتها) وتتسق هذه الرؤى والتصورات مع رؤى وتصورات إدوارد سعيد بضرورة وجود مثقف يعمل على هدم التصورات الثقافية بطبعتها التقليدية المنتجة للدوغما وتضميناتها العنفية وانتاج ثقافة متضمنة للنزعة الانسنية بوصفها نزعة ديمقراطية تقترح ضرورة التعايش السلمي
والاعتراف بالآخر.