د. صادق كاظم
مرَّ العراق في حزيران من العام 2014 بواحد من أقسى وأخطر التهديدات التي لم يواجه مثلها منذ الحرب العالمية الاولى، حيث تعرضت مؤسسته العسكرية الى الانهيار وتبخرت أربع فرق قتالية كانت تشكل حائط الصد الأخير لحماية المنطقة الشمالية الممتدة من الموصل وكركوك حتى أطراف بغداد، ضمن طوق دفاعي كان يبدو أنه محكم على الورق فقط بينما كان الواقع يؤكد شيئا آخر.
كان الوضع الميداني وفي الموصل خصوصا منهارا، حيث كان الفساد متوغلا في عمق المؤسسة الأمنية والعسكرية، اذ تخلى القادة العسكريون والأمنيون الموكولون بحماية المدن والقواطع عن واجباتهم وانشغلوا بجمع الاموال بدعم سياسي، فيما استغل تنظيم داعش هذا الفساد وانعدام الثقة بين المواطنين في الموصل والأجهزة الامنية مع وجود خلايا نائمة خطيرة للسيطرة على المدينة، فيما اكتفت المؤسسة العسكرية الحاكمة في المدينة بالتفرج والانتظار.
كان الموقف يزداد خطورة وكانت المعنويات تنهار واصبح الجنود في المدينة مطاردين من قبل خلايا داعش السرية الى درجة ان الخروج من الموصل براً كان يعني ذبح الجنود على الطرقات.
لم تتحرك القيادة العليا لمعالجة الموقف او ترميمه وتبادر الى ايقاف أعمال الفساد والمحسوبية واستبدال القوات في المدينة بقوات أخرى وشن عمليات خاطفة ضد معاقل وأوكار التنظيم في المدينة وخارجها والاستعانة بقيادات محترفة أكثر خبرة وكفاءة.
كانت الشائعات السلاح الأخطر وتدني المعنويات واضحا وعدم مبالاة القادة الامنيين والصراع المحتدم بين محافظ المدينة والقائد الامني شديدا، وهي عوامل قادت وفاقمت من الانهيار الذي حصل وادى الى الكارثة، حين تبخرت فرق الجيش والشرطة بلحظات امام تقدم بضعة مئات من عناصر داعش لم يكونوا يتخيلون ان مدينة حصينة بحجم الموصل، أصبحت فارغة وخالية من أي عنصر عسكري.
أمام انهيار القوات وتلاشيها وعدم وجود احتياطي كافٍ من القوات كان البحث عن حلٍّ سريع وحاسم يوقف هذا الانهيار مطلوباً وبسرعة فكان تدخل المرجعيّة ممثلة بآية الله السيد علي السيستاني حاسما، حين اعلن عن وجوب مشاركة باقي المواطنين المدنيين من القادرين على حمل السلاح للتطوع ودفع الغزاة التكفيريين عن الارض والوطن ضمن ما يعرف بالجهاد الكفائي وهو احد انواع الجهاد في الفقه الاسلامي، إذ كانت الاستجابة مذهلة وسريعة من خلال أكثر من 60 ألف مقاتل سارعوا خلال ايام قليلة الى التطوع والمشاركة، إذ ازدحمت بهم المقار والمعسكرات ليتم بعدها تشكيل الالوية وتوزيعها بين قواطع العمليات مع اعادة تشكيل الفرق القتالية المتسرّبة واعادة تسليحها ووضع خطط للعمليات تتضمن اعادة تحرير المناطق المحتلة وفق الأسبقيات والضرورات.
سارعت تشكيلات الحشد التي انضمت اليها تشكيلات قتالية محترفة أخرى تابعة الى منظمات سياسية موجودة كانت تقاتل قوات الاحتلال الامريكي وقتها كعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وسرايا السلام التابعة للتيار الصدري الى وضع خطة مشتركة لاقتلاع داعش من اطراف العاصمة بغداد وفك الطوق عنها شمالا وغربا، فكانت معركة جرف النصر واحدة من الملاحم البطولية الخالدة التي سطرها أبطال الحشد التي أزاحت داعش عن معقل استراتيجي خطير كان يخطط لجعله مقراً لعملياته صوب بغداد والجنوب فكانت الهزيمة في جرف النصر مقدمة لانهيار تدريجي في صفوفه امتد الى باقي القواطع.
إذ تلاحقت الهزائم والانهيارات في صفوف داعش فكانت معارك التحرير في آمرلي والفلوجة والرمادي وباقي مدن الانبار الأخرى، فضلا عن سامراء وبلد والضلوعية والاسحاقي والشرقاط، وكذلك المعارك المتبقية في مدن ديالى ليحكم الطوق حول الموصل وكركوك ليتوالى بعدها الزحف نحو الموصل ومدنها، إذ اخذت تسقط المدن والقرى والارياف المحيطة بالموصل شمالا وجنوبا وغربا، وصولا الى المعركة الأصعب في قلب المدينة التي دارت فيها معارك طاحنة تعد الأقسى خلال الحرب.
انتهت المعارك بأكملها بعد مرور 3 سنوات تكللت بالنصر وهزيمة داعش من أرض العراق بشكل كلي ماعدا بعض الخلايا النائمة والمتناثرة هنا وهناك يتم اصطيادها بين الحين والآخر.
سطر أبطال الحشد ملحمة نصر حقيقية وكانوا السند الداعم لقوات الجيش والشرطة الاتحادية وانجزوا من خلال سلسلة من المعارك البطولية التي قاموا بها والتضحيات الجسام التي قدموها جميع ما كلفوا به من واجبات، متحدين أقسى الظروف والصعوبات مما سيظل شاهدا على عمق الايمان لدى هؤلاء الرجال الذين نذروا أنفسهم لحماية الوطن وأهله من إجرام أعتى العصابات الإجراميَّة وأكثرها شراسة خلال التاريخ الحديث.