روبرت فروست بعين جون. ف. كندي
تقديم وترجمة: عبود الجابري
منذ أن نطق الإنسان بالشعر، بدأ الالتباس يشوب العلاقة بين الشعر والسلطة، من حيث حاجة السلطة إلى قوة الشعر، وحاجة بعض الشعراء إلى وجاهة السلطة، هذا الالتباس افضى إلى خلق نوع من التشكيك في ديمومة الربيع الذي يصدف أن تعيشه هذه العلاقة، فالكثير من مواسم الخصب فيها، ما يلبث أن ينذر بجفاف مباغت سببه
تعثر النهر الذي يروي هذه العلاقة؛ بسبب من اقتران صفة التكسب بهذه العلاقة، والضريبة التي تفرضها بحصر أغراض الشاعر في المديح الشخصي وهجاء الأعداء، الأمر الذي ينتهي بالشاعر وقصيدته إلى نمطية معينة في السلوك والكتابة.
وقد نجا من هذه القاعدة شعراء أسعفتهم موهبتهم في كتابة تاريخهم الشعري وتخليد أصواتهم، رغم ارتباط أسمائهم بمراكز قوىً فاعلة في السلطة، ويخيّل إليَّ أنَّ المتنبي أحد هؤلاء.. أسوقُ هذه المقدمة وأنا أجيل عينيّ في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي جون كندي في كلية أمهيرست، تكريماً للشاعر الأميركي روبرت فروست. في ذلك الخطاب بدا لي كندي وكأنه يرسم صورة حلمٍ مؤجل لشاعر عربي، من خلال تقديسه صورة الفنان والكاتب، فهو يقول: "إنّ الاعتراف بمكانة الفنان والكاتب أكثر أهمية من مستقبل البلاد وحضارتها".
وهو يرى أنَّ مهمة الفنان هي استجواب السياسي وتذكيره دائماً بسعة الوجود من حوله، من أجل أن يبقيه في دائرة الوجود الإنساني.
صحيح أن روبرت فروست شارك بوصفه شاعراً في مراسم تنصيب جون كندي، إلّا أن قصيدته في ذلك الاحتفال كانت احتفالاً بأميركا وحدها، ولم يُطْرِ فيها أحداً بعينه، وذلك يعني أنَّ ما قاله كندي في ذكرى تكريم فروست ليس سوى صورةٍ من صور احترام السياسي للمنجز الإبداعي، من حيث تأثيره في بناء الاطار الأخلاقي للأمة. باختصار فإن كلمة جون كندي تصلح قانوناً اخلاقياً يرسم علاقة المبدع بالسياسي بشكل يصلح لجميع الأزمان.
(نص الخطاب) هذا يومٌ مكرَّس لذكرى روبرت فروست، يوم يمنحنا فرصةً للتوقف عند فكرٍ يجدر بالسياسيين وغيرهم التوقف عنده. روبرت فروست أحد أرقام عصرنا الصعبة في أميركا، ومدعاة فخرنا سببان هما: أنَّه فنان وأميركي في وقت وأحد. فالأمم لا تستمد إلهامها من الرجال الذين تنجبهم، ولكن من الرجال الذين تفخر بهم، الرجال الذين تخلدهم.
في أميركا يتراكض القوم صوب الرجال الذين يسجلون إنجازات بارزة، لكننا اليوم في هذه الكلية، وهذا البلد، نفخر برجل كان تنوّعه بحجم أرواحنا لا أجسادنا، بحجم تبصّرنا وليس بحجم معتقداتنا السياسية، بحجم تفهمنا الذاتي وليس بحجم غرورنا. وحين نقوم بتكريم روبرت فروست، فإننا كذلك نمنح الشرف للينابيع العميقة في قوّة أمَّتنا، وتلك القوة تأخذُ أشكالاً متعددة، وما هو واضح من تلك الأشكال ليس ما هو أكثر أهمية دائماً. الرجال الذين يخترعون القوة يوجِدون تنوعاً لا غنى عنه في عظمة الأمة، ولكن الرجال الذين يستجوبون القوة يصنعون تنوّعاً لا غنى عنه على الإطلاق، لا سيما حين لا يلقى هذا الاستجواب اهتماماً من قبل الذين يحددون إذا كنا نستعمل القوة أو أنَّ القوة تستعملنا. قوَّتنا الوطنية مهمَّة، لكن الروح التي تبدع تلك القوة وتسيطر عليها أكثر أهمية، ذلك ما كان فروست يحاول ترسيخه، وقد بذل من خلال مواهبه الغزيرة جهداً سخياً، لترسيخ التقوى والابتعاد عن الابتذال في المجتمع. وقد كان إحساسه بمأساة الإنسان سبباً في نزوعه إلى مواساة الآخرين وعدم تفضيله مصالحه الشخصيةَ. "لقد كنتُ"، كما قال، "شخصاً خَبر الليل وعرفَ منتصف الليل مثلما عرفَ ذروة الظهيرة: لأنه أدرك انكسار الروح البشرية وانتصارها"، وقد منحَ
عُمرَه القوَّة من خلال التغلب على اليأس.
وقد حمل منذ صغره يقيناً عميقاً بروح الإنسان، وإنَّها لمصادفة عسيرة أنْ يملك روبرت فروست ناصيتي الشعر والسلطة، وقد رأى في الشعر الوسيلة التي تحمي السلطة من ذاتها، عندما تقود السلطة الرجل إلى الطغيان، فإن الشعر يذكره بحدوده، وعندما تضيّق السلطة مساحة اهتماماته، فإن الشعر يذكره بغنى الوجود وتنوّعِه من حوله.
عندما تفسد السلطة فإنَّ الشعر يقوم بالتطهي، لأن الفن يرسخ الحقائق الإنسانية الرئيسية، تلك الحقائق التي يجب أن تكون محكَّ الذهب في أحكامنا. الفنان بأية حال مخلص لرؤيته للواقع، وهو النصير الأخير للرأي الآخر والوعي المغاير ضد الفكر القمعي والفضولي للمجتمع، والفنان العظيم بالتالي كائنٌ متفرِّد، وهو كما يقول فروست: "يقود معركة العاشق مع العالم"، في مطاردة إدراكه الواقعَ وإبحاره ضد التيار في زمانه. وليست تلك قاعدة عامة، فإنْ كان روبرت فروست حظي بالتكريم في حياته، فإنَّ ذلك كان بسبب الرغبة في تخطّي كثير من الحقائق المعتمة. ومع ذلك فإننا استعدْنا من خلال ذلك كيف كان لولاء الفنان أثر في تقوية نسيج حياتنا الوطنية. وحين ينتقد الفنانون العظماء المجتمع، فإنَّ ذلك ناجم عن حساسيتهم وقلقهم على العدالة، الأمر الذي من شأنه أنْ يحثَّهم - بوصفهم فنانين حقيقيين- على ذلك، ويجعلهم يدركون القوة الكامنة في توالي تعثر الأمة ونهوضها. من وجهة نظري، فإنَّ الاعتراف بمكانة الفنان أكثر أهمية من مستقبل بلادنا وحضارتها، فعندما يقوم الفن بتغذية ثقافتنا، فإن على المجتمع أنْ يمنح الفنان حريَّة تتَّبع رؤاه حيثما تأخذه. يجب علينا ألّا ننسى أنَّ الفنَّ ليس شكلاً من أشكال الدعاية، وإنَّما شكلٌ من أشكال الحقيقة، وكما ينصح السيد ماكليش الشعراء: "لا شيء يسيء لتجارتنا أكثر من الوقوع في النمطية". الفن في المجتمع الحر ليس سلاحاً، وهو في الوقت ذاته لا ينتمي إلى نطاق الجدل والإيديولوجيا. الفنّانون ليسوا مهندسي الروح، قد يكون ذلك مختلفاً في مكان آخر، لكنْ في المجتمع الديمقراطي، فإنّ المهمة الأساسية للكاتب والمؤلف، والفنان، تكون هي البقاء صادقاً مع ذاته، وإتاحة المجال للشظايا كي تسقط حيث يريد. وحين يتفاني الفنان في رؤيته للحقيقة، فإنه يخدم أمته بشكل أفضل، والأمة التي تزدري مهمّة الفن فإن مصيرها سيكون تماماً، كمصير "الرجل المرتشي" في إحدى قصائد فروست:
"لا شيء يدعو إلى النظر إلى الوراء بفخر، ولا شيء يدعو إلى النظر إلى الأمام بأمَل".
أنظرُ قدماً إلى المستقبل العظيم لأميركا، المستقبل الذي تتماثل فيه قوتنا العسكرية مع قوتنا الأخلاقية، ثراؤها مع حكمتنا، قوَّتها مع غاياتنا. أنظر قدماً، إلى أميركا التي لا تخاف الرحمة والجمال، أميركا التي تحمي جمال محيطنا الوطني، وتحمي عظمة بيوت أميركا القديمة، وساحاتها ومتنزهاتها وماضي امتنا، وتبني مدناً كبيرة متوازنة لمستقبلنا.
أنظر قدماً إلى أميركا التي تكافئُ إنجازات الفنانين، مثلما نكافئُ السياسيين على منجزاتهم.
أنظر قدماً إلى أميركا التي تُعلي تدريجياً معايير الإنجازات الفنية، وتوسّع الفرصَ الثقافيةَ لكلِّ المواطنين. أنظر قدماً إلى أميركا التي تفرض احترامها في كل مكان في العالم، ليس فقط بسبب قوتها، وإنما لحضارتها كذلك.
وأنظر قدماً كذلك إلى عالم سيكون آمناً، ليس إلى الديمقراطية والاختلاف فحسب، ولكن إلى التمايز الشخصي كذلك. روبرت فروست كانت تتنازعه بشكل دائم؛ شكوك حول مشاريع تطوير الإنسان، حتى الآن لا أظنُّ أنه فقد الأمل كما كتب ذات يوم، إبان الحرب العالمية الثانية:
"عليكُم التحلّي بجوهرِ الإنسان، منذ بدءِ الخليقة
عزّزوه قليلاً، في محاباة البشر. ولو بجزءٍ من واحد بالمئة فحصيلتُنا في هذا الكوكب ما تنفكُّ تتناقص. وبسبب من حياة السيد فروست وأعماله، وحياة هذه الكلية وأعمالها، فإن حصيلتنا، في هذا الكون، ما انفكت في تزايد.
(عن مجلة The Atlantic)