أعمال فنيَّة خَلَّدَها {الموديل}

ثقافة 2023/06/25
...

  جمال العتابي


كانت المرأة مصدراً للجمال الذي يجسّده التشكيليون في أعمالهم الفنيَّة، فكم من اللوحات والمنحوتات الشهيرة لوجوه وأجساد لنساء لا نعرف لمن تعود، ومن أصحابها؟، قليل من الناس من يعرف مقدار الجهد الشاق، والصبر العنيف، وقوة الاحتمال التي يتطلبها ذلك العمل المضني للموديل حين تجلس ساعات طويلة أمام الرسّام أم النحّات بملابسها، أو من دونها، لينقل من خلالها موضوعه. ولعلَّ أشهر موديلات العصر الحديث التي حفظ لنا التاريخ اسمها، هي (سوزان فالادون)، لاعبة السيرك التي رسمها وعشقها كبار رسامي السنوات الباريسيَّة المجنونة، التي ولدت عام 1865، ووفدت باريس في سن الخامسة عشرة، بصحبة فرقة للسيرك، قبل أن تحترف مهنة الوقوف أمام الفنانين كموديل، عقب سقوطها ذات مرّة من على الأرجوحة، لينتهي بذلك عملها في ذلك الميدان.

   في حي (مونمارتر) المخصص للفن والجمال، في تلك التلّة التي يعمل ويعيش فيها أو في جوارها  الرسامون الكبار الذين اكتشفوا أسرار جمالها، وجرأتها، واندفاعها، وطيشها، وحريتها، كانت سوزان تتردد على مشاغل الرسامين (ديغا، ودي شافان، ورينوار، وتولوز لوتريك)، وربما كان تناسق جسدها وليونته، وما يشعّ في محيّاها من دفء صارخ، لفت انتباه الرسامين، لتصبح (ماريا الرهيبة) كما كان يسميها ديغا، والموديل الأفضل لهم جميعاً، يدللونها كطفلة، يتبادلونها فيما بينهم، يقطفون من جسدها الرشيق أجمل خطوطه، وانحناءاته، وأرقّ تقسيماته وتكوراته، ليودعها لوحاته التي خلّدها التاريخ، كلوحة (الغابة السحرية)، للرسام دي شافان عام 1988، ولوحة (فتاة تضفر شعرها) للرسام رينوار عام 1885.

  أنجبت سوزان ابنها الوحيد الذي لم تكشف أبداً عن هوية الأب وأسمته (موريس)، وأصرّت الأم أن يتعلّم الرسم، كما هي الأخرى، أصبحت واحدة من أشهر الرسامات في باريس، لكن من الصعب ترتيبها مع أفضل رسّامات المرحلة، ومع ذلك فإنها كانت المرأة الأولى التي قُبلت عضواً في أكاديمية الفنون الجميلة  الفرنسية التي كانت معروفة بانحيازها الذكوري، ففالادون لم تدرس الرسم ولم تتخصص فيه، لكنها مارسته كرسامة طوال أربعين عاماً، تُرى أكانت سوزان تحتاج لعشق ثلاثة من كبار رسامي زمنها، وتنجب ولداً ليصبح رابع الرسامين الكبار في حياتها؟. 

   كانت سوزان تقف كعادتها ساعات طويلة بجوار المدفأة ثابتة الحركة عارية، تصغي الى صوت احتكاك فرشاة الفنان، وهي تلامس سطح اللوحة، بعصبية تارة، وبرفق تارة أخرى، وكأنها تهمس في أذن الصمت الذي يغمر الغرفة المكتظة برائحة الزيت والألوان، بينما ينساب من زجاج السقف ضوء ناعم يتلألأ فوق بشرتها العاجيّة، في تناغم مع ألوان الستائر التي تحيط بها من كل جانب، وإذ يستبدّ بها الإعياء، تهبط سوزان من فوق منصتها لتجلس أمام اللوحة، تحملق فيها، وكأنها تمتصّ عصارتها بعينين 

ظامئتين.

سوزان حتى تلك اللحظة كانت واثقة من دورها الجمالي، لكن ثمة شيئاً آخر كان يتحرك في داخلها، ففي غفلة من الفنان، تمتد يدها لتلتقط ورقة ترسم عليها بضعة خطوط عابثة، ثم تخفيها وكأنها تقوم بعمل ليس من حقها ممارسته، لكن هذا الشيء الذي بدأ ينمو داخل سوزان جعلها لا تكفّ عن العبث بالألوان والخطوط في سبيل التسلية، وذات مرة وقعت عينا تولوز لوتريك على أحد رسومها فصاح قائلاً: أنت فنانة موهوبة يا ماريا، إذ لاحظ أن وراء خطوطها موهبة ذات شأن، فشجّعها على المضي في ممارسة الرسم، وراحت بكل طاقتها لترسم، وسرعان ما احتلّت لوحاتها مرتبة متقدمة في أكثر مراحل الفن خصوبة في فرنسا، وتميزت أعمالها بقوة التكوين والألوان النابضة بالحياة، كما عرف عنها أنها أفضل من رسم موضوع عُري المرأة، عاصرت فان كوخ، وغوغان، وتوثقت علاقتها مع براك وبيكاسو، وقدّر لها ان تورث موهبتها الى ابنها موريس اوتريللو، الذي كُتب له أن يكون فناناً، تفوّق على أمه في الشهرة، وكان أحسن من رسم شوارع باريس وأزقتها. 

 سارت الأم وابنها في خطين متوازيين من دون أن يلتقيا، فسوزان أثبتت طوال حياتها أنها إنسانة ذات روح حرة، تعتني اعتناءً استثنائياً في رسم اللوحة، لمدّة تصل الى عشر سنوات قبل عرضها، ولعل تلك اللوحة التي رسمتها لنفسها عام 1923، وهي مستلقية على الفراش بملابس بسيطة، وفي فمها سيگارة، توحي بتمكنها من هذا الفن، ورغم شهرتها والنجاح المالي الذي حققته، قضت سوزان حياتها وحيدة ترسم الزهور والطبيعة الصامتة حتى كانت وفاتها في 7 نيسان 1938.

  لا شك أن المتأمل في تجربة سوزان، سيتوصل الى أسرار هذه التجربة، وكنهها، وسيتأكد له أسباب نجاحها التي وظّفت لها مهارتها الفنية بقدر من الذكاء والعفوية، وحساسيتها الفائقة في اللون، لقد استطاعت بفعل هذه العوامل أن تتحول من فتاة ريفية تركت قريتها، وغيّرت اسمها لتعيش في باريس على هواها، يتسابق عليها الرسامون الكبار في حي مونمارتر.