باتريك زوسكيند.. حينما تكون الكتابة تلقائيَّةً بقدرِ ما هي عزائيَّة

ثقافة 2023/06/26
...

 باقر صاحب

هذه قراءة انطباعية لكتاب باتريك زوسكيند الجديد الذي ضمَّ قصصاً قصيرة  وعددها ثلاث، واحتوى على مقدمة للكاتبة الكبيرة لطفية الدليمي، فضلا عن مقالة في نهاية الكتاب، هي لحظة تأمل عن «فقدان الذاكرة الأدبيَّة».  
الدليمي ذكرت سيرة مختصرة عن الألماني زوسكيند، صاحب الرواية الشهيرة «العطر» فهو من أسرة مثقفة، والده كاتبٌ ومترجم، وأخوه الأكبر صحفي. حصل زوسكيند على شهادة جامعية في (التاريخ) عام 1974 من جامعة ميونيخ. وهو يعيش حالياً متنقلا بين باريس وميونيخ متفرغاً للكتابة. ركزت الدليمي على حب زوسكيند للعزلة والابتعاد عن الأضواء، إلى درجة عدم حضوره العرض الأول لفيلم «العطر»، المأخوذ عن روايته نفسها.

وذكرت الدليمي بأنّهُ كان قد كتب حواراً لفيلم»روسيني» صوّر فيه بطريقةٍ ساخرةٍ شخصيته هو إلى حدٍّ ما «فالشخصية الرئيسة في الفيلم – وهو كاتب– يرفض أن يتقاضى أجراً كبيراً مقابل تحويل كتابه إلى فيلم»: ص7 الكتاب.
ومن ثمّ تسرد الخصائص الأسلوبيَّة لزوسكيند، فتقول عنه «يكتب بطريقةٍ تبدو تلقائيَّةً بقدر ما هي عزائيَّة، وهو لا يفتأ يقول عن نفسه بأنّ أمر الكتابة المدهشة قد جاءه على هذا النحو من دون أن تكون الأمور قسريّةً»: ص8.
ولو أتينا على قصصه الثلاث، سندرك صدى ما أفادت به الدليمي في تحليلها الدقيق الموجز لأسلوب زوسكيند.

سخرية سوداء
القصة الأولى «بحثاً عن العمق»، ملخّصها بأنّ هناك رسّامةً شابّةً أقامت معرضاً شخصيّاً للرسم، أحد النقاد الحاضرين امتدح لوحاتها أمامها ولكنّه أشار إلى أنّها تفتقر إلى العمق.
هذه الملاحظة صدمت الشابّة، فأصابها الإحباط  لأنَّ الناقد ذاته كرّر ذلك في مقالةٍ له نشرتها إحدى الصحف.. بأنها تحظى بالموهبة ولكنها تفتقر إلى العمق، وبتتابع مجريات القصّة على هذا النحو، ساءت أمورها بشكلٍ عجائبي، إلى الحدّ الذي التزمت فيه شقّتها التي أصبحت مكاناً للفوضى والأوساخ.
آخر ما أقدمت عليه تمزيق كلِّ لوحاتها وانتحرت، الناقد ذاته كتب عن رحيلها بفذلكةٍ لغويَّة، متطرقاً الى  أن الافتقار إلى العمق كان سبباً في رحيلها.
يمكن القول بحسب تحليلنا أنّ القصة توجّه رسائل عديدة، منها السخرية السوداء من النقد المحبط والقاتل، الذي يكاد يكون سمة بعض النقّاد على مستوى العالم.
الرسالة الثانية، إن الكتاب أو الكاتبة أو أي إنسانٍ لا ينبغي أن يأخذوا على محمل الجدِّ ما يقالُ عنهم سلباً، لأنَّ التأثّر الحادّ كما هو حال الرسّامة، يعني انعدام الثقة بالنفس، وربما كان ذلك ملاحظةً ذكيّةً من الناقد بأنّه اكتشف عدم الثقة بالنفس لديها، بافتقارها إلى إحراز بصمةٍ خاصةٍ  في أعمالها.
وهنا يحضرنا قول الدليمي بأنّ زوسكيند «يلجأ إلى المناورة في مساحةٍ واسعةٍ رمزيةٍ تقبل خارطةً مشتبكةً من التأويلات الشخصيّة»: ص9.

 إيقاعُ المغامرة والتجديد
 قد نتذكّر الاقتباس السابق عندما نقرأ القصة الثانية (صراع) بطلاها لاعبا شطرنج أحدهما بطلٌ محليٌّ كبيرُ السن وشابٌّ غريب.
عندما تبدأ المباراة يندهش الجمهور المحليُّ للخطوات المغامرة للشابِّ الغريب، ويمتعضون من التردّد والارتباك لبطلهم القديم، الشابُّ يغامر بخسارة أيّ قطعة شطرنج، ساعياً الى الانتصار على غريمه بطرقٍ جديدةٍ وبأسرع وقت، وحينما يدرك أنَّ الأمور لن تجري لصالحه، يوقع بحركةٍ من يدهِ ملكه الأسود معلناً نهاية اللعبة، أي هنا انتحارٌ آخرُ بطريقةٍ شطرنجية.
الجمهور حَزِنَ لخسارته المغامرة، والبطل المسنُّ شعر بأنّهُ حقّق نصراً مذلًّا، يقرّر بعدها اعتزال اللّعب بالشطرنج، فهل أراد زوسيكند إشعارنا بأنَّ الناس في بلده وفي كل أصقاع العالم، هم متحمّسون ومبادرون لإيقاع التجديد في كلّ شيء، أظنُّ أن ذلك أحد تأويلات القصة
الممتعة.
 توأمةُ الحياةِ والموت
في القصة الثالثة «وصية المعلّم موسارد» بطلها موسارد، وهو على  سرير المرض مصابٌ بمرضٍ غريبٍ اسمه (الشلل التصدّفي)، يبرز فكرةً وجوديةً بأنّ العالم ما هو إلّا سوى صَدَفةٍ تنفتح وتنغلق على نفسها، والإنسان ذاته تمثّل ولادته أوّل خطوةٍ في رحلة موته وليس حياته، قد يقال أن هذه الفكرة ليست بالغريبة، مثلما يقال أن صرخة الوليد بعد خروجه من بطن أمه هي صرخة احتجاجٍ على الخروج إلى هذا العالم، وبحسب  موسارد، ضدّ الخروج من الصَّدفة التي سنعود إليها يوماً، ولكن زوسكيند يتقن كيف يحبك تلك الفكرة البسيطة في قصةٍ معقّدةٍ فيها تحولاتٌ كبيرةٌ تحدث لبطل القصة من ابن اسكافي إلى أحد صاغة الذهب الأثرياء في فرنسا، وشخصيةٍ عامة تلتقي بأعلام الفكر في فرنسا، لكنّه يعتزل كلّ ذلك في بيته الذي أصبح عالمه الخاص، ويعمد إلى عمل شرفةٍ في بيته ويقوم بالحفر بنفسه، إلى أن يُفاجأ بحسب سيرورة القصة بأنّ باطن الأرض مليءٌ بالصّدف، وأنها تحتوي في باطنها على بقايانا المتحجرة بعدما نموت، إذ يقول بطل القصة وراويها العليم: «إنّ تحجّر الإنسان يبدو للعيان أكثر مع تقدّمه في العمر؛ إذ يتشقّق جلده، ويتقصّف شعره، وتتكلّس عروقه وقلبه ومخّه، وينحني ظهره، ويتكوّر شكله ويتحدّب حسب البنيان الداخلي
للصّدفة «: ص40.

 هل تغيّرُ الكتبُ مسارَ حياتنا؟
ونذكر هنا بإيجازٍ شديدٍ شيئاً عن مقالته في نهاية الكتاب «فقدان الذاكرة الأدبية» وهي»لحظة تأمل» مُدرجةٌ في العنوان الرئيس للكتاب، الذي قام بترجمته كاميران حوج، يبحث زوسكيند في تأمّله عن جوابٍ لسؤاله عن الكتاب الذي «حدّد خطَّ حياتي»: ص47 أو بعبارةٍ أخرى، غيّر مسار حياة زوسكيند.
المقالة حديثٌ عن الذاكرة الأدبية للكتّاب والقرّاء معاً، لأنّه في  النهاية ينصح القارئ «أقول عليك أن تصمد بكلّ قوةٍ في وجه سيل نهر النسيان، عليك ألّا تغرق كليّاً في نصٍّ ما بل عليك أن ترتفع فوقه بوعيٍ واضحٍ،
ناقد» ص: 51.
* صدر الكتاب عن مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون عام 2023.
 باقر صاحب

وذكرت الدليمي بأنّهُ كان قد كتب حواراً لفيلم»روسيني» صوّر فيه بطريقةٍ ساخرةٍ شخصيته هو إلى حدٍّ ما «فالشخصية الرئيسة في الفيلم – وهو كاتب– يرفض أن يتقاضى أجراً كبيراً مقابل تحويل كتابه إلى فيلم»: ص7 الكتاب.
ومن ثمّ تسرد الخصائص الأسلوبيَّة لزوسكيند، فتقول عنه «يكتب بطريقةٍ تبدو تلقائيَّةً بقدر ما هي عزائيَّة، وهو لا يفتأ يقول عن نفسه بأنّ أمر الكتابة المدهشة قد جاءه على هذا النحو من دون أن تكون الأمور قسريّةً»: ص8.
ولو أتينا على قصصه الثلاث، سندرك صدى ما أفادت به الدليمي في تحليلها الدقيق الموجز لأسلوب زوسكيند.

سخرية سوداء
القصة الأولى «بحثاً عن العمق»، ملخّصها بأنّ هناك رسّامةً شابّةً أقامت معرضاً شخصيّاً للرسم، أحد النقاد الحاضرين امتدح لوحاتها أمامها ولكنّه أشار إلى أنّها تفتقر إلى العمق.
هذه الملاحظة صدمت الشابّة، فأصابها الإحباط  لأنَّ الناقد ذاته كرّر ذلك في مقالةٍ له نشرتها إحدى الصحف.. بأنها تحظى بالموهبة ولكنها تفتقر إلى العمق، وبتتابع مجريات القصّة على هذا النحو، ساءت أمورها بشكلٍ عجائبي، إلى الحدّ الذي التزمت فيه شقّتها التي أصبحت مكاناً للفوضى والأوساخ.
آخر ما أقدمت عليه تمزيق كلِّ لوحاتها وانتحرت، الناقد ذاته كتب عن رحيلها بفذلكةٍ لغويَّة، متطرقاً الى  أن الافتقار إلى العمق كان سبباً في رحيلها.
يمكن القول بحسب تحليلنا أنّ القصة توجّه رسائل عديدة، منها السخرية السوداء من النقد المحبط والقاتل، الذي يكاد يكون سمة بعض النقّاد على مستوى العالم.
الرسالة الثانية، إن الكتاب أو الكاتبة أو أي إنسانٍ لا ينبغي أن يأخذوا على محمل الجدِّ ما يقالُ عنهم سلباً، لأنَّ التأثّر الحادّ كما هو حال الرسّامة، يعني انعدام الثقة بالنفس، وربما كان ذلك ملاحظةً ذكيّةً من الناقد بأنّه اكتشف عدم الثقة بالنفس لديها، بافتقارها إلى إحراز بصمةٍ خاصةٍ  في أعمالها.
وهنا يحضرنا قول الدليمي بأنّ زوسكيند «يلجأ إلى المناورة في مساحةٍ واسعةٍ رمزيةٍ تقبل خارطةً مشتبكةً من التأويلات الشخصيّة»: ص9.

 إيقاعُ المغامرة والتجديد
 قد نتذكّر الاقتباس السابق عندما نقرأ القصة الثانية (صراع) بطلاها لاعبا شطرنج أحدهما بطلٌ محليٌّ كبيرُ السن وشابٌّ غريب.
عندما تبدأ المباراة يندهش الجمهور المحليُّ للخطوات المغامرة للشابِّ الغريب، ويمتعضون من التردّد والارتباك لبطلهم القديم، الشابُّ يغامر بخسارة أيّ قطعة شطرنج، ساعياً الى الانتصار على غريمه بطرقٍ جديدةٍ وبأسرع وقت، وحينما يدرك أنَّ الأمور لن تجري لصالحه، يوقع بحركةٍ من يدهِ ملكه الأسود معلناً نهاية اللعبة، أي هنا انتحارٌ آخرُ بطريقةٍ شطرنجية.
الجمهور حَزِنَ لخسارته المغامرة، والبطل المسنُّ شعر بأنّهُ حقّق نصراً مذلًّا، يقرّر بعدها اعتزال اللّعب بالشطرنج، فهل أراد زوسيكند إشعارنا بأنَّ الناس في بلده وفي كل أصقاع العالم، هم متحمّسون ومبادرون لإيقاع التجديد في كلّ شيء، أظنُّ أن ذلك أحد تأويلات القصة
الممتعة.
 توأمةُ الحياةِ والموت
في القصة الثالثة «وصية المعلّم موسارد» بطلها موسارد، وهو على  سرير المرض مصابٌ بمرضٍ غريبٍ اسمه (الشلل التصدّفي)، يبرز فكرةً وجوديةً بأنّ العالم ما هو إلّا سوى صَدَفةٍ تنفتح وتنغلق على نفسها، والإنسان ذاته تمثّل ولادته أوّل خطوةٍ في رحلة موته وليس حياته، قد يقال أن هذه الفكرة ليست بالغريبة، مثلما يقال أن صرخة الوليد بعد خروجه من بطن أمه هي صرخة احتجاجٍ على الخروج إلى هذا العالم، وبحسب  موسارد، ضدّ الخروج من الصَّدفة التي سنعود إليها يوماً، ولكن زوسكيند يتقن كيف يحبك تلك الفكرة البسيطة في قصةٍ معقّدةٍ فيها تحولاتٌ كبيرةٌ تحدث لبطل القصة من ابن اسكافي إلى أحد صاغة الذهب الأثرياء في فرنسا، وشخصيةٍ عامة تلتقي بأعلام الفكر في فرنسا، لكنّه يعتزل كلّ ذلك في بيته الذي أصبح عالمه الخاص، ويعمد إلى عمل شرفةٍ في بيته ويقوم بالحفر بنفسه، إلى أن يُفاجأ بحسب سيرورة القصة بأنّ باطن الأرض مليءٌ بالصّدف، وأنها تحتوي في باطنها على بقايانا المتحجرة بعدما نموت، إذ يقول بطل القصة وراويها العليم: «إنّ تحجّر الإنسان يبدو للعيان أكثر مع تقدّمه في العمر؛ إذ يتشقّق جلده، ويتقصّف شعره، وتتكلّس عروقه وقلبه ومخّه، وينحني ظهره، ويتكوّر شكله ويتحدّب حسب البنيان الداخلي
للصّدفة «: ص40.

 هل تغيّرُ الكتبُ مسارَ حياتنا؟
ونذكر هنا بإيجازٍ شديدٍ شيئاً عن مقالته في نهاية الكتاب «فقدان الذاكرة الأدبية» وهي»لحظة تأمل» مُدرجةٌ في العنوان الرئيس للكتاب، الذي قام بترجمته كاميران حوج، يبحث زوسكيند في تأمّله عن جوابٍ لسؤاله عن الكتاب الذي «حدّد خطَّ حياتي»: ص47 أو بعبارةٍ أخرى، غيّر مسار حياة زوسكيند.
المقالة حديثٌ عن الذاكرة الأدبية للكتّاب والقرّاء معاً، لأنّه في  النهاية ينصح القارئ «أقول عليك أن تصمد بكلّ قوةٍ في وجه سيل نهر النسيان، عليك ألّا تغرق كليّاً في نصٍّ ما بل عليك أن ترتفع فوقه بوعيٍ واضحٍ،
ناقد» ص: 51.
* صدر الكتاب عن مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون عام 2023.