استعادة الجمهوريَّة

آراء 2023/07/03
...

 ساطع راجي

 

في الباب الأول من الدستور العراقي، في باب المبادئ الاساسية، في المادة (1)، يعرف العراق بأنه جمهورية، فهل العراق جمهورية؟.

لـ(الجمهورية) كمصطلح في علم السياسة تعريفات كثيرة وعليه خلافات أيضا، ومع ذلك توجد مقاربة للتعريف تبدو ساخرة للوهلة الأولى لكنها تلخيص يوضح المعنى، وتقول المقاربة، إن الجمهورية هي تحول الهتاف من (عاش الملك) إلى (عاش الشعب)، وهذا يعني أولوية رأي ومصلحة المواطنين على رأي ومصلحة الحاكم، وهو ما يسمى بسيادة الشعب، ومن هذه المقاربة يمكن تحريك السؤال الأول (هل العراق جمهورية؟) إلى (هل الشعب هو السيد في العراق؟).

إن الصراع على السيادة في العراق شغل الجزء الاكبر من تاريخ دولتنا الحديثة (تأسست 1921)، فخلال الفترة (1918 - 1921) دار الصراع بين العراقيين والبريطانيين على السيادة في هذه الارض، وكان صراعا أيضا بين عراقيين من طبقات ومكونات وعشائر وصراع شخصيات طامحة، كما يحدث في كل حالة تشكل لدولة جديدة، حتى تم التوصل إلى تسوية الملك الهاشمي الحجازي، واستمر صراع السيادة بين العراقيين والبريطانيين على إدارة الدولة، وتسجل محاضر جلسات الحكومات المتعاقبة التي نشرها عبدالرزاق الحسني في كتابه (تاريخ الوزارات العراقية)، إن الصراع على السيادة يعني كل تفاصيل إدارة الدولة من تأجير المطارات وخدماتها إلى التعاقد مع العمال اليوميين في السكك الحديدية أو تكاليف إجازات الموظفين الاجانب في المؤسسات العراقية، فالسيادة عنوان عام لتفاصيل مهمة ويومية.

ودخل صراع السيادة إلى منظومة الحكم الملكي نفسها بين العراقيين من جهة والمجموعة المرافقة للملك في تنقلاته بين الحجاز وسوريا، وإذا كانت هوية الملك لا تناقش، فإن هوية الحاشية والموظفين والضباط الذين جلبتهم معها موضع نقاش وصراع دائم، وهو ليس صراعا فكريا أو صراع أنساب، وإنما صراع على الوظائف والاراضي والامتيازات وصناعة القرار، وكل صراع سيادة (داخل الدولة الواحدة) هو في الاساس صراع على الثروة والنفوذ، ولأن الجيش كان عمود الدولة العراقية كان الصراع داخله أشد، حتى تم تعريقه تماما، ثم نشب صراع الجيش مع بقية مؤسسات الدولة على السيادة، وفي مقدمتها العرش الذي أدرك معتليه الملك غازي شراسة الصراع، وحاول كسب الطرف الاقوى (الجيش) إلى جانبه ضد بقية المؤسسات، فشجع انقلاب بكر صدقي 1936، ورغم النهاية السريعة للانقلاب، إلا أن الجيش أدرك حجم قوته واكتشف في الوقت نفسه تأثير عدم شرعية تحركاته السياسية، فوجد في (الشعب) الغطاء اللازم وهو ما حدث في مايس 1941، لكن بقي بحاجة إلى شرعية الهدف، وبفضل المناخ السياسي اليساري نهاية الخمسينيات كان الشعب يصلح أن يكون هدفا أيضا.

أثبتت الاحداث أن المناخ اليساري وخاصة الشيوعي كان قد قدم خارطة طريق واضحة لتأسيس النظام الجديد، خارطة علنية مطروحة للجميع، يمكن تبنيها من قبل أي منتصر على النظام الملكي، تشمل التحول إلى الجمهورية والاعتراف بالتنوع المجتمعي وإدارة الثروة (تأميم النفط، الاصلاح الزراعي..) وتحديد الاقطاع والعشائرية والتمييز الجنسي والأمية كأمراض يجب اجتثاثها، برنامج يمنح شرعية شعبية لأي تحرك نحو التغيير، وهو ما يجعل من حدث 14 تموز 1958 ثورة حقيقية منذ بدايتها وليست انقلابا أو حركة جيش فقط، لإن الفرق بين الانقلاب والثورة هو في توفر البرنامج الثوري وخلال خمس سنوات (1958 -  1963) كانت حزمة القوانين الثورية قد أنجزت التحول الاجتماعي نحو نقل السيادة من الملك وأعمدة حكمه الاجتماعية إلى الشعب (وفق المفهوم الثوري لا الديمقراطي)، ولولا وجود البرنامج الثوري الجاهز ما كانت التحولات ستتم بهذه السرعة وبمجرد الافتراق بين الشيوعيين والضباط توقفت مسيرة التحول وعاد العراق إلى منطقة الانقلابات ذات الدوافع الشخصية والخالية من البرامج.

أزمة السيادة التي هي أساس الجمهورية صارت ثقيلة من جديد بعد تموز 1958، إذ توجد سيادة الشعب كشرط ثوري، وسيادة الجيش كشرط واقعي، والشرط الاول يؤدي إلى تأسيس نظام ديمقراطي ومؤسسات دستورية لكن الشرط الثاني يؤدي إلى تأسيس مجلس قيادة للثورة، وقد فشل الشرطان في إنتاج استحقاقهما لكن بدلا من ذلك تشكل (مجلس السيادة) الذي كان بديلا عن رئاسة الجمهورية وضم ثلاث شخصيات (سني هو نجيب الربيعي رئيسا للمجلس، وشيعي هو محمد مهدي كبة، وكردي هو خالد النقشبندي)، ولم يكن هذا الحل الوسط ناجحا كالعادة في العراق، هو حل تلفيقي وسطي لا يعترف بحق الشعب بتمثيل نفسه عبر برلمان كخطوة ثورية سياسيا ولا يعترف بالأمر الواقع وتأثير الضباط، فيمنحهم مجلسا للقيادة، كما أنه مثل صورة ساذجة للاعتراف بالمكونات العراقية وتعدد الهويات فهؤلاء الثلاثة لا يمثلون أحدا ومجلسهم ليس إلا حالة مؤقتة وإنتقالية تمتلك صلاحيات تشريفية بديلا عن رئاسة الجمهورية في انتظار حسم وضع ومنصب (رئاسة الجمهورية)، وهو ما لم يحدث الا بعد انقلاب 1963.

كانت عقبة (السيادة) واضحة في ذهن الثوار لذلك لم تكتمل (الجمهورية) المنشودة والتي يتطلب تحقيقيها شيء واحد أساسي هو الاعتراف بالزوال السياسي للحكام، وهو الفرق بين الملكية والجمهورية، وعقدة الزوال لم تعرقل الدولة العراقية فقط بل عرقلت عشرات الدول الأخرى التي يخجل أو يخشى حكامها الجمهوريون من إعلان رغبتهم بالتحول إلى ملوك جدد.

إن طريقة الزعيم عبدالكريم قاسم ورفاقه في معالجة استحقاقات الجمهورية وتحقيق التحول الثوري الكامل استغلها من جاء بعده وبقي مفهوم (سيادة الشعب) معلقا في الفراغ، وبالتالي بقيت مفاهيم (المال العام) و( الثروة الوطنية) و(شرعية السلطة) كلها معلقة ومفتوحة للعبث، ولذلك بقيَّ نظام (الجمهورية) معطلا، وهو أمر في عرف التطور التاريخي طبيعي فالجمهورية في فرنسا احتاجت قرنا كاملا، لكي تستقر مع فارق أساسي هو أن توصيف العراق كـ(جمهورية)، ليس محل تساؤل ولا انشغال، إذ يتم التعامل معه، باعتباره جزءا من الأسم وموضوعا تم حسمه وإنجازه ولا مشكلة تواجهه لكنه ليس كذلك.

لقد اختلف ضباط 14 تموز على تشكيل مجلس قيادة ثورة وربما فشلوا، لأن الاحزاب الثورية في العراق كانت أكثر شعبية ووعيا منهم ولهذا أيضا رفضوا تأسيس حياة برلمانية لأنها ستخرجهم من السلطة، فإخترعوا وضعا يشبه (مجلس السيادة) على نطاق أوسع لإدارة الدولة، وضع لا يسمح بالتقدم إلى الامام ولا التراجع للخلف، وما يحدث منذ 2005 (إقرار الدستور) في العراق هو استنساخ باهظ الكلفة لتلك المرحلة، لأن صناع النظام الجديد لا يريدون إطلاق سراحه من أيديهم ليتشكل وفق الآليات الدستورية لدولة جمهورية ديمقراطية، الصناع ربطوا النظام بذواتهم الشخصية، التي ترفض الزوال السياسي أو حتى الاعتراف بمحدوديتها، مقارنة بالبلاد والمواطنين، والصناع أيضا بلا برامج طويلة أو قصيرة المدى وهو ما تتطلبه الديمقراطية الحقيقية مثلما تتطلبه الثورة الحقيقية.

تمثل الجمهورية تطورا تاريخيا، قفزة كبيرة، في مجتمعات تعودت على اعتماد النسب كأساس لشرعية الحكم والاقرار بأبدية الحاكم وسلالته، إذ لا يوجد شعب أو مواطنون وإنما عشيرة أو رعايا، وهؤلاء ليس لهم الا من الحياة إلا ما يمنحهم الملك، وهذا القدح بالملكية قد لا يكون محبوبا هذه الأيام، إذ يرى كثيرون أن الملكية أكثر استقرارا، لكنهم بالطبع لا يريدون الاعتراف بإن الليونة الملكية ليست الا خوفا من الجمهورية، وإن كل نظام ملكي هو في جوهره قائم على عبودية المواطنين للملك ولأتفه شخص في عائلته، ولذلك فإن كل لمسة عطف من الملك أو أحد الامراء تتحول إلى حدث تاريخي يجب الاحتفال به.

إن الهوس الشعبوي الجديد في منطقتنا بالملكية هو حالة مرضية، نوع من إنكار الوقائع والعيش في وهم القصر الجميل، المهووسون بالملكية يريدون لأنفسهم ولبقية المواطنين الدخول إلى القصور كخدم، يتمتعون برحمة الملك وينبهرون بترفه ويسعدون لأنهم يجمعون نفاياته وهو ما يحدث اليوم في العراق عمليا، لكن بصورة مصغرة مع ملوك الطوائف والاحزاب في تقليدي هزلي للجلالة الملكية المبادة.