عبد الهادي مهودر
كان في حيّنا حاجاّ واحداً فقط، صار بيته القديم علامة دالة، مثل أية دائرة حكومية تذكرها في استمارة طلب المعلومات الأمنية، كأقرب نقطة دالة (بيت الحجي ودكان الحجي ومرت الحجي) وقد استغرقت رحلته البرية في سيارة باص نوع (فورد) نحو شهرين (مع العطلات والبناچر)، في وقت لم تكن السيارات مبرّدة، ولم تكن رحلة الحجاج العراقيين في الإقامة والسفر ذهاباً وإياباً بالطائرات أو براً من بغداد إلى الديار المقدسة، سهلة وقصيرة كما هي اليوم، وعندما أتمّوا الحج وعبَرت سيارة الحجاج الحدود البرية السعودية نحو العراق، وصل الخبر السعيد، وجرت استعدادات الجيران والأقارب بشراء الهدايا، بل إن جميع البيوت دخلت حالة الاستعداد القصوى للحدث الكبير على صعيد المنطقة، وعصر ذلك اليوم البهيج عاد (الحجي) من بيت الله الحرام بثوب أبيض ووجه قد ازداد سمرة، واستقبله الكبار والصغار برجالهم ونسائهم، وامتلأ بيته بصفائح الدهن النباتي نوع الراعي وأكياس التمن، وهوّست له نسوة الحي تلك الهوسة الشهيرة (أهلا بالحجي جايب ريحة مكة وياه)، وكنت وأطفال المنطقة نردد هذه الهوسة بمناسبة ومن دون مناسبة، وبقيت على ألسنتنا طويلاً، وحين كنّا نمر من أمام دكانه الصغير نرفع صوتنا ونسير بطريقة الجنود، الذين يستعرضون من أمام منصة الشرف، ولكنه كان يطردنا شر طردة، ولم نكن نفهم سبب انزعاجه، رغم حبنا للحجي ودكانه الوحيد، والكارثة التي اكتشفناها لاحقاً أننا كنا نرددها بالخطأ ودون قصد منا (أهلاً بالحجي جايب ريحة مرته وياه)، ونضع مرته أي زوجته بدلاً من مكة لتقارب اللفظتين.. يا للهول ! وفهمنا لماذا فرك الحجي أذن أحدنا فركاً، حتى كاد يقطعها من مكانها وقرّب فمه من أذنه وصرخ بصوت عالٍ (ولكم مكة مو مرته) وسط قهقهة جماعية لسكان (الحي اللاتيني)!.
رحم الله الحجي وزوجته الحجية، التي لم تحج بيت الله، ولكنها أخذت شرف اللقب من شهرة زوجها، واستطاع في بقايا العمر أن يجمع لها ما يستطيع ويمنحها في نهاية العمر لقب (زايرة)، وهي الصفة التي تطلق على زوار الإمام الرضا (عليه السلام) حينذاك لقلة الزائرين القادرين ايضاً، ولو امتد العمر بالحاج الوحيد لمات كمداً من ضياع شهرته بحج الكبار والصغار هذا الزمان لعشرات المرات ودون انقطاع.
وكما هو حال حجينا، طيب الذكر، كان العراقيون لا يؤدون فريضة الحج، إلا في أواخر العمر، لسبب مادي بحت في الغالب، والرجل وزوجته يقضيان العمر بجمع نفقات الحج الباهظة، و يضحّي أحدهما للآخر، ويذهب وحيداً مكسور الوجدان، ومات الكثيرون من دون أن يتمكنوا من تحقيق هذا الحلم الصعب، ولهذا السبب نطلق على كبار العمر لقب (الحجي والحجية)، وإن لم يكونوا حجاجاً، لكنّ شبابنا في سن السبعين والثمانين من العمر يزعجهم هذا الوصف الكريم، ويعنّفك أحدهم إذا وصفته بالحجي، أما إذا وصفتها بالحجية، فيأتيك رد المرأة مستنكراً ومزلزلاً (قابل آني هازة كاروكك؟!).