بقايا رغوة وخبايا الرماد

ثقافة 2023/07/04
...

  جهاد الرنتيسي
على الحد الفاصل بين توقيتين، قبل أن يخلي أحدهما مكانه للآخر، في لحظة اتجاه عقارب الساعة إلى المجهول لتكرس اعتقادا بخروج {قبائل الضد} من {فقاعة الفردوس} إلى الفراغ، في زمن الكويت المحتل ولدت الفكرة، ولم أكن أعلم بأنها ستتحول إلى مشروع يسد بعض شروخ ذاكرة المخدوعين.

وجدت وقتا لقليل من التأمل وبناء العوالم رغم التشتت بين الحصول على الحد الأدنى من مقومات الحياة، متاهة التفكير في الاولويات المفترضة لمثقف يحرص على موطئ قدم في زمن العسكرة، تهويلات حرب طاحنة على الأبواب، وقلق على مصير قبيلة ظهرها إلى الجدار.
ظننت السرد والتدوين محاولة للهرب من اللحظة في بعض الاحيان، واصلته بحثا عن ملاذ، ربما بحكم العادة على الكتابة التي كانت تستهلك معظم الوقت وتشغل التفكير خلال عمل صحفي توقف بحكم الامر الواقع، ولا استبعد أن يكون حب البقاء، والخوف من ضياع التجربة بين الاسباب.
كان يستوقفني التلاحق العبثي للحوادث، حدة التجاذبات التي لا تقبل المرونة، استحالة الوقوف في الوسط، تلاشي النمط، انكفاء الطمأنينة الزائفة امام الشك، فقدان الأمان، انسداد الافق، وتحايل الناس على حاجاتهم الاساسية.
تهنا في الدوامة سبعة اشهر، لم أجد خلالها مبررا للتوقف عن معاينة ما يجري، تدوين ما أراه وأسمع عنه، اخفقت في الاتفاق مع الآراء التي كنت اسمعها، وظلت هواجس مصير "القبيلة الضائعة" تعبث في الذهن.
انكسرت موجة توتر بخروج القوات العراقية المفاجئ من الكويت دون مواجهة حقيقية، تلاشت مخاوف حرب اسلحة الدمار الشامل، تفاوت صخب الموجات اللاحقة ـ حمولة الكراهية، غياب الثقة، وانسداد أفق التعايش مع ظهور جيوش التحالف في الاحياء ـ لتفضي إلى بحث عن فضاءات جديدة، تباينت فرص العثور عليها بين سهولة واستحالة مغادرة "قبائل الضد" إلى بلادها، تشظت بين مواطني دول، لاجئين، وبدون، ولم تستعص على الالتقاط والتدوين.
تراجعت دمشق وبيروت بفقدان حضورهما في خارطة البحث عن دور، ليطل خيار عمان الخارجة من زمن الاحكام العرفية، كانت الاوراق المكتوبة بقلم الرصاص أثمن ما في حقيبة الكتف التي حملتها في ساعة متأخرة من ذلك المساء نحو حدود فقدت ملامحها امام ريح الفوضى العابثة بالمكان.
في أمان عمان ما يكفي لالتقاط الانفاس، قراءة ابجديات المكان، التعرف على موجات القادمين إلى المدينة بحثا عن مأوى بعد ان ضاق بهم الجوار، استعادة بعض التوازن، وقراءة ما ظننت بأنه رواية قيد الانجاز، تحمل اسم "الهامشيون" الذي وجدت فيه ما يعبر عن حياة الفلسطينيين في الكويت.
تحمس المرحومان مؤنس الرزاز وجمال ناجي للمخطوط، كانا يحثانني على المواصلة، لكنني فضلت التريث، اقنعت نفسي بانشغالات الصحافة وتفاصيل الحياة اليومية، ظل مشروع كتابة الرواية في الذهن، احدّث الاصدقاء عنه من نافذة الحنين اليه، يشجعونني على المضي فيه، يروق لي تشجيعهم، يتسع المدى، تتبدل النظرة للماضي، تتغير قراءات الأحداث، الرؤى التي حسبتها ثابتة، يتسع مدى الذاكرة، تلقى ظلالها على هوامش التفكير، تضيق تفاصيل احداث المخطوط، لتنتهي في حقيبة سوداء، ملقاة على رف المكتبة، فقدتُ الرغبة في فتحها.
استغربت سخرية المرحوم خيري منصور ـ ذات لقاء صدفة في احد مقاهي عمان ـ من فكرة كتابة رواية تدور احداثها في الكويت، قال يومها ان عوالم المدينة لم تتبلور هناك بعد لتكون قادرة على حمل رواية، كانت "بدرية" عالقة في الذهن، ولم أفقد ثقتي في قدرة تحولات التاريخ، مسارات الاحداث، تفاصيل الحياة اليومية على توفير مناخات الرواية، تجاهلت الرد عليه لعدم استساغتي تعاليه، حاول المرحوم عزالدين المناصرة تدارك الموقف، وانتبهت يومها لاتساع الهوة التي تفصلني عن مخطوطي.
تبين لي بعد تفكير امتد لسنوات أن للهامشيين الفلسطينيين الذين عاشوا في الامارة هوامش أوسع مما اعتقدت، تجربتهم مفتوحة على غيرهم من كويتيين وعراقيين ومصريين وسوريين، ولا يمكن فهمها بعيدا عن سياقاتها التاريخية، لتسقط فرضية المجتمع المعزول عن بقية مكونات المكان التي كرستها خصوصية غذتها قوانين التهميش المتبعة، وقطرية الفصائل.
وجدت ان من شأن المقدمات السياسية لوجودهم في الامارة تفسير الكثير من خبايا التاريخ الفلسطيني المعاصر في حال الابتعاد بضع خطوات عما ضخته الماكنة الاعلامية وواجهاتها الثقافية منذ نهايات خمسينات القرن الماضي ولم يعد مقنعا بعد الانكشافات
المتلاحقة.
اقتضت العودة للكتابة النبش في العمق بحثا عن بدايات البدايات، قراءات اخرى للتاريخ، بذهنية مختلفة، يغلب عليها النقد، مقاربة الاحداث، تجنب التسليم بالمتداول من التفسيرات، وضع الحقائق في سياقات جديدة بعد اعادة النظر في دقتها، ومعرفة واقع اجتماعي ـ سياسي شغلنا عنه الاعتياد على مكان تخيلناه بداية العالم ونهايته، التيه في دوامة الظواهر الاستهلاكية، وتحول "العابر" و"المؤقت" الذي ورثناه إلى نمط حياة.
انتهى تتبع الاحداث، البحث في الأرشيفات، مذكرات الراحلين، وذاكرة الباقي من الاحياء إلى لوحات فسيفسائية تظهر تشظيات الشخصية الفلسطينية التي اعتاد القارئ العربي على وضعها في سلة العادي ـ لتظل قادرة على استعادة صورة البطل ـ وقابلية كل شظية من هذه الشظايا لمزيد من التشظي، تتهاوى معه الشعارات وفرضيات القوالب
الجاهزة.
أملت هذه النهايات بدايات جديدة في الكتابة عن التجربة الفلسطينية، تذهب بعيدا في رفع اسقف التعبير المنخفضة، نفض غبار الموروثات السياسية المزيفة للوعي، كسر النمط الذي كرسته مؤسسة منظمة التحرير لتجاري الرسميات العربية في رسميتها، ومواكبة الاختلاف المفترض للمحتوى والخطاب بمتغيرات في أشكال السرد تأخذ في اعتبارها ضرورات التجديد.
صدرت "بقايا رغوة" وتبعتها "خبايا الرماد" ضمن مشروع روائي يطمح لتلبية حاجات تجاوز عجز المشهد الروائي العربي عن سبر اغوار التجربة الفلسطينية، كان من الطبيعي ان تدفع الروايتان فاتورة الاشتباك مع النمط التي ظهرت في محاولات تهميش وتشويه يمارسها النقد المرتهن لجائزة هنا أو دعوة لمشاركة في مؤتمر أو لجنة هناك، لكن العقبات لا تعفي من المواصلة.