نهر الصناعة المحليَّة بين النضوب والتجفيف

آراء 2023/07/04
...

أحمد الشطري

من بين أهم الروافد الاقتصادية في العالم هو رافد الصناعات بمختلف أشكالها، وقد شكلت الثورة الصناعية، بالإضافة إلى تطور آليات استخراج الثروات الطبيعية وتعدد أنواعها وتضخم كمياتها، دافعا رئيسيا لنشوء الحروب والصراعات السياسية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ما دفع الدول الصناعية إلى البحث عن المنافذ التسويقية لمنتجاتها، والسعي بشتى الوسائل للهيمنة، واحتكار مناجم المواد الأولية بما يخدم ويعزز ويقلل من تكاليف منتجاتها، فتم توزيع العالم، وفق منطق القوة إلى مناطق نفوذ بين الدول العظمى.
ومع ظهور حركات التحرر في ما سمي بالعالم الثالث اتخذت العديد من الدول، التي كانت تحت الهيمنة الاستعمارية خطوات جادة في تنمية صناعاتها، وتطوير منتجها الزراعي واستغلال ثرواتها الطبيعية بما يخدم شعوبها، وقد كان بلدنا من بين تلك الدول التي أسست العديد من المنشآت الصناعية المهمة، بيد أن مغامرات الحروب وما رافقها من دمار وحصار أدت إلى نضوب هذا الرافد المهم، وكان من الممكن في ظل الوضع الجديد والموازنات الضخمة والانفتاح الاستثماري، أن تعود الحياة للعديد من المنشآت الصناعية السابقة وتطويرها وانشاء صناعات متطورة حديثة يمكن أن تسهم في تعزيز الجانب الاقتصادي وإضافة مساهم آخر يسند فردانية المصدر المعتمد على الثروة النفطية المهددة دائما بعدم استقرار الأسعار، وإذا كان رافد الزراعة خاضعا لعامل توفر المياه، الذي أصبح أمرها بيد الدول المجاورة، التي اتخذت منه عاملا مساعدا في فرض إرادتها الاقتصادية والسياسية، فإن الصناعة هي الأخرى يبدو أنها باتت رهينة تلك الإرادات الخارجية، والتي وجدت في العراق وثرواته الضخمة سوقا مزدهرة، وإذا كان ثمة مشروعية للمؤثرات الخارجية الساعية إلى إيقاف عجلة الصناعة في بلدنا عن الدوران، باعتبار أن تلك الدول تبحث عن تحقيق مصالحها مهما كانت الوسيلة المتبعة في ظل التفكير البراغماتي، الذي أصبح منهجا عمليا راسخا في سياسات الدول بمختلف متبنياتها الايديولوجية والفكرية المعلنة، فإن مثل تلك المشروعية لا يمكن أن يكون لها وجود أو حضور تبريري لغياب الإرادة الداخلية في إعادة وتطوير المنتج الصناعي المحلي ودعمه، بالشكل الذي يجعل منه مصدرا أساسيا لحاجة السوق المحلية على أقل تقدير، بالإضافة إلى مساهمته في الحفاظ وتعزيز الدخل القومي، وإيجاد منافذ حقيقية تسهم في امتصاص كابوس البطالة والبطالة المقنعة المستشري والمبدد للكثير من الطاقات الشبابية، التي من الممكن أن تشكل ثروة إبداعية قادرة على مواكبة التطور المتسارع في التقنيات الحديثة.
إن أمرا مثل هذا لا شك يحتاج إلى توفر الإرادة الصلبة والنوايا المخلصة والنزيهة، التي لا يمكن لأحد أن يثبت توفرها لدى معظم الحكومات والمسؤولين السابقين، بل أن الرضوخ للعوامل المعوقة والتي حالت دون إحياء وتطوير المنتج الصناعي المحلي؛ هو بلا شك عامل مساعد من عوامل الفساد وضياع الثروات وإيثار المصلحة الذاتية المفسدة على المصلحة الوطنية العامة، ولعل في هذا الجانب بيانا واضحا ودليلا دامغا على ضعف، إن لم يكن غيابا تاما للروح الوطنية التي تستشعر مصلحة البلد، وتضعها فوق كل مصلحة مهما كان شكلها ومتبناها السياسي والعقائدي والقومي.
إن الإمكانيات المتوفرة في بلدنا بطرفيها البشري والمادي قادرة على جعل إدارة عجلة الصناعة بأحسن ما يمكن، والوصول بها إلى مستويات الدقة والرصانة، التي تخدم المستهلك وتخلق العوائد الربحية على أكمل صورة، إذا ما قننت بما يحميها من منافسة المنتج الخارجي الرخيص ثمنا والرديء جودة.