مؤتمر علمي في بغداد يناقش التغييرات في «الدول المأزومة»
بغداد: صفاء ذياب
اختتم في بغداد الأسبوع الماضي؛ المؤتمر العلمي الخامس الذي أقامته الجمعية العراقية لعلم النفس السياسي بالتعاون مع جمعية الأمل العراقية، بعنوان (التغيير الاجتماعي والسياسي في الدول المأزومة.. المحرّكات والمسارات والمآلات)، بمشاركة 16 باحثاً في مختلف تخصصات العلوم الإنسانية.
وفي كلمته التي قدّم من خلالها المؤتمر، قال رئيس الجمعية العراقية لعلم النفس السياسي، الدكتور فارس كمال نظمي: إنَّ هذا المؤتمر انطلق من فرضية أساسية مفادها بأنَّ “التغيير الاجتماعي والسياسي” يغدو واحداً من أكثر المفاهيم جدوى وجدارة بالمقاربة العلمية المتخصّصة، في الدول الموصوفة بالتأزّم والفشل والهشاشة بسبب عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي السائدين فيها، ومنها العراق، مع إدراك أنَّ هذا المفهوم ينفتح على احتمالات بحثية متفرّعة غير محدودة في خلفيّاتها النظرية والتطبيقية.
16 باحثاً في 3 جلسات
شارك في المؤتمر 16 باحثاً من داخل العراق (بغداد، السماوة، كربلاء، الناصرية، تكريت، الكوت)، في تخصصات العلوم الإنسانية المختلفة، قدموا 14 ورقة بحثية في اختصاصات الفلسفة والسياسة والاجتماع والانثربولوجيا والنفس والنقد الأدبي، وقد سعى المؤتمر للاشتغال على مفهوم / ظاهرة “التغيير” من منظورات أكاديمية تخصصية متعددة، محاولاً بحث الأسباب والمناخات المحركة لهذا التغيير، وكيفية صيرورته والمسارات التي قد يتخذها، ونتائجه وما ينجم عنه من مخرجات متنوعة الاحتمالات، في الدول المأزومة.
استغرق المؤتمر 6 ساعات، ضمن ثلاث جلسات:
- الجلسة الأولى: التغيير الاجتماعي والسياسي في العراق: حراك الثقافات والهويات.
-الجلسة الثانية: التغيير الاجتماعي والسياسي: عالمية الظاهرة وتعددية الاختصاصات.
- الجلسة الثالثة: التغيير الاجتماعي والسياسي في العراق: أسئلة في أزمة الدولة والسلطة والمجتمع.
محاور متخصصة
أدار الجلسة الأولى، الدكتور خليل إبراهيم رسول، بمشاركة خمسة باحثين: د. سعيد عدنان المحنة بدراسته “بنية الاستبداد في المجتمع العراقي بين الثبات والتغير”، ود. شاكر شاهين “الصدمة الثقافية والتغيّر الاجتماعي في العراق”، ود. علي حاكم صالح “فاعلية الثقافة العراقية في التغيير الاجتماعي: دراسة في حالتي علي الوردي ومجلة التراث الشعبي”، ود. محمد حمود إبراهيم السهر “الاستثمار السياسي للثقافة التقليدية في العراق: قراءة سوسيو - ثقافية في حركات التقدّم والنكوص للدولة والمجتمع في العراق”، ود. عبد العظيم جبر حافظ “التغيير السياسي والهوية الوطنية العراقية: بحث في التوجّهات الدستورية قبل وبعد 2003”.
في حين قدّم الدكتور جاسم محمد عيدي، الجلسة الثانية، وشارك فيها د. علي عبود المحمداوي “الديمقراطية وأزمة التغيير: مقال في ما هو كائن في النظام وما ينبغي في الحركة”، ود. جعفر نجم نصر “مؤدلجون ومتصوفون: جدالات التغيير في الخطاب الإسلامي”، ود. مثنى فائق مرعي ود. تمارا كاظم الأسدي “مستقبل التحوّلات السياسية في إيران بين ضغوط الاقتصاد وإحداث التغيير”، ود. صلاح عدنان ناصر “تآكل الثقة السياسية وعلاقتها بالتغيير الاجتماعي السياسي: دراسة نظرية”، ود. لؤي خزعل جبر “الفرد وتغيير العالم: البطولة الاجتماعية والتغييرات الاجتماعية والسياسية”.
أما الجلسة الثالثة والختامية، فقد أدارها د. لؤي خزعل جبر، وشارك فيها د. حسين أحمد دخيل السرحان “الدوافع الاقتصادية للتغيير السياسي في العراق: قراءة في التحديات الاقتصادية ما بعد الصراع”، ود. عدنان صبيح ثامر “الانتخابات وشرعية الجمهور: آليات ديموقراطية يقوّضها الصراع في العراق”، ود. مالك شنشول بداي “دور المؤسسات العراقية في تعزيز / تخفيف التسلسل الهرمي الاجتماعي: دراسة مقارنة في ديناميات التغيير الاجتماعي”، وأخيراً د. فارس كمال نظمي ود. مازن حاتم “الاتجاهات الشعبوية والاعتقاد بنظرية المؤامرة لدى الصدريين والشيوعيين في العراق: مقاربة نفسية لبعض العوامل المحرّضة والكابحة للاعتقاد بالتغيير السياسي”.
تحولات في الهوية العراقية
في ورقته البحثية، حاول الدكتور عبد العظيم جبر حافظ، الأستاذ المتخصّص في النظم السياسية بـ”جامعة النهرين”، تبيان أهم التحوّلات السياسية التي طرأت على الهوية العراقية من خلال قراءته لتحوّلات الدساتير العراقية، قائلاً: إنَّ تأسيس الدولة العراقية تخلّل غياب أو ضعف في الوعي السياسي - الثقافي للهوية الوطنية. فقد ظلَّ الانتماء “الفرعي” – الضيّق - هو المسيطر على هاجس المكوّنات الاجتماعية، وبدا واضحاً ذلك في الدساتير العراقية منذ دستور 1925 حتى دستور 2005، فلم يفلح العراق منذ عام 1921 بتأسيس نظام سياسي عقلاني رشيد يواجه ويجد حلولاً لمشاكله لاسيّما “الهوية الوطنية”، وأضاف، أنه بما إنَّ الدستور يعدُّ وثيقة أساسية لقواعد وأركان الدولة الحديثة، لأنَّه يمثّل انعكاساً للواقع السياسي – الاجتماعي - الثقافي، فقد ظلّت الهوية الوطنية قضيّة جدلية، إذ تمَّ بناء الدولة العراقية الحديثة قبل تأسيس الهوية الوطنية العراقية، فالجدل الناشئ في عدم تبلور أو تبنّي هوية وطنية عراقية في الدساتير العراقية حتى عام 2003، يعود إلى عدّة متغيّرات، أهمها: “المتغيّر الأيديولوجي”، و”المتغيّر النخبوي”، و”المتغيّر التاريخي”.
حديث الفلسفة
في حين أوضّح الأستاذ الدكتور علي عبود المحمداوي، أستاذ الفلسفة في “جامعة بغداد”، في ورقته “الديمقراطية وأزمة التغيير: مقال في ما هو كائن في النظام وما ينبغي فيه”، أنَّ مشكلة التغيير السياسي تعدُّ على مستوى النظام أو الحركة من أهم الموضوعات التي تناقشها الفلسفة السياسية من حيث البواعث والآليات والغايات، مبيناً أنَّ التغيير السياسي بصوره المختلفة ليس بالحدث أو المطلب الجديد، فتاريخ البشرية مليء بحركات تغييرية وواقع متغير ومطالب تصل حد الطوباوية في التغيير، مؤكداً أنه يمكن قراءة التغيير السياسي بشأن الديمقراطية (موضوع بحثنا) من ثلاث زوايا: التغيير السياسي نحو الديمقراطية، التغيير السياسي ضمن الديمقراطية، والتغيير السياسي عن الديمقراطية.
وأضاف المحمداوي: لو أمعنّا النظر في تاريخ الأنظمة السياسية والتحوّلات على مستوى التنظير والتطبيق؛ لوجدنا أنَّ الوجهين يتعلّقان بالخلاص تارة وبالشروط التاريخية تارة أخرى، فالقهر والتفاوت والظلم والعنف والضعف والخراب والفساد كلّها مسبّبات لمطلب الخلاص، ولكن للواقع كلمته الفصل فلا يمكن تحقيق الخلاص من دون شروط تاريخية تقتضي إمكان وجود التغيير وفاعليه وبيئته، وأشار إلى أنه غالباً ما تشعر الشعوب بأنَّ الخلاص من الطغيان والأنظمة الأخرى التي تفشل هو باللجوء إلى الديمقراطية، وهذا صائب ببعضه خاطئ بالبعض الآخر؛ لأنَّ التجارب البشرية السياسية على مستوى النظم ليست محصورة بنجاح الديمقراطية وفشل كل ما عداها، كما العكس يمكن أن يصدّق.
الصدمة الثقافية
وفي دراسته عن الصدمة الثقافية، قال الدكتور شاكر شاهين: إنَّها تحدث عندما يشعر أعضاء جماعة ما أنَّهم خاضعون لحدث مروّع ترك علامات لا تمحى على وعيهم الجماعي، وطبعت في ذاكرتهم للأبد وغيّرت هويّتهم بطرق جوهرية وغير قابلة للمحو، وحسب المنظّرين مثل “جيفري ألكسندر” و”رون إيرمان”، فإنَّ ما يعقب الصدمة الثقافية حالة من التغيّر الاجتماعي التي تتوزّع في سمات أربع، هي أنَّ التغيّر “مفاجئ وشامل وأساسي وغير متوقّع”.
وجادل الباحث شاهين، بشأن أهمية اللحظة التاريخية التي عاشها العراق منذ عام 2003 التي تعدُّ حالة صدمة ثقافية غيّرت من وجه العراق إلى عراق آخر جديد في ظل نظام ديمقراطي، لكنّه حمل كل أعباء الماضي التي تمخّضت عن أزمات ما زال البلد يعاني منها حتى اللحظة، وناقش التحوّلات لاستشراف صورة عراق تغيّر وما زال في صيرورة التغيّر بفعل الصراع الدائم بين أقطاب السلطة والمجتمع.
جدالات الخطاب الإسلامي
في حين كانت دراسة الدكتور جعفر نجم نصر، بشأن جدالات الخطاب الإسلامي، ترتكز على المعاني والتأويلات التي يقدّمها هذا الخطاب، مبيناً أنَّ هذا الخطاب لم يكن كتلة واحدة متجانسة، بل كان يعبّر في حقيقة الأمر عن خطابين متناقضين، بل ومتصارعين. أحدهما مثل ما نصطلح عليه بـ”الإسلام الأيديولوجي”، وقبالة ذلك يقف ما نصطلح عليه بـ”الإسلام الصوفي”.
وبيّن، أنَّ الوقوف على الخطابين كليهما يقدّم لنا مادة نظرية وميدانية واسعة عن مجموع هذه التجارب التي تزوّدنا بمنظورات موسّعة عن “الأديولوجيا الدينية” و”الذاكرة الدينية” المستمرة و”الدين السياسي” المتوخّى لدى الخطابين، فضلاً عن كونه يقدّم تصوّراً تحليلياً عمّا يجري في عدّة بلدان مأزومة لا تعيش استقراراً سياسياً أو اجتماعياً، كما وقف البحث عند منابع الأدلجة الدينية، وقدّم نماذج تأسيسية وحديثة بشأن ذلك وللخطابين كليهما.
هذا وكانت البحوث تدار عبر مئة طاولة مستديرة، بعيداً عن سلطة المؤتمرات، بل كان النقاش هو الحاضر الرئيس من أجل فهم هذه التحوّلات وما طرأ من تغيّرات على بلد دائم الفتوة مثل العراق بسبب الانتقالات الدائمة في نظمه السياسية، والبدء من جديد مع كل مرحلة جديدة وسلطة جديدة.
بواكير التأسيس
وتأسست “الجمعية العراقية لعلم النفس السياسي” Iraqi Association For Political Psychology، في 30 تموز 2017، في منتدى الأمل وسط العاصمة بغداد، وهي منظمة ثقافية علمية نفسية إصلاحية مدنية غير حكومية، تؤمن بأن للمعرفة العلمية النفسية طاقات إصلاحية فاعلة تؤهلها لتجاوز أي حدود سياسية أو دينية أو عِرقية أو طبقية أو جغرافية قد يفرزها الواقع، سعياً إلى إصلاح البنية السيكوسياسية في العراق، مكرّسة طاقة الفكر والممارسة لتحقيق رؤيتها المتبناة: “نحو ثقافة سياسية إنسانية تحقق كرامة المجتمع وعقلانية الدولة”، وتعد الجمعية الأولى من نوعها على مستوى العراق والوطن العربي، من حيث تخصصها الدقيق، وهي تعنى بالظواهر السياسية تحليلاً
وكشفاً.
وبكلمات عميقة المعنى، نستعيد كلمات رئيس الجمعية د. فارس كمال نظمي، خلال حفل الإعلان عن تأسيسها في 2017: إن “أزمنة من لحم ودم احترقت حتى النخاع، وسط نسيج اجتماعي مزقته الحروب والصراعات السياسية أمام أنظار إنسان قانط يتنفس الحرمان والعجز والظلم والاكتئاب والاستلاب، ويكابد تغييب الدور وتشظي الهوية وتصدع الذاكرة الاجتماعية وانفراط معنى الحياة.. وسط هذه التراجيديا العراقية تأسست الجمعية، بوصفها جماعة ثقافية نفسية إصلاحية مدنية، تؤمن بأن للمعرفة العلمية النفسية طاقات إصلاحية فاعلة تؤهلها لتجاوز أي حدود سياسية أو دينية أو عرقية أو طبقية قد يفرزها الواقع، سعياً لإصلاح البنية السيكوسياسية”.
أهداف الجمعية
أما العضوان المؤسسان للجمعية، د. لؤي خزعل ود. جاسم محمد عيدي، فقد أعلنا عن أهداف الجمعية، مبينين أنها تعنى بدراسة وتحليل المشكلات والظواهر النفسية الناتجة عن تبادل التأثير بين السياسة والمجتمع، وكذلك تقديم المشورة العلمية للمؤسسات الرسمية وغير الرسمية وتبصيرها بالأسس النفسية للسلوك السياسي، بما يرسخ مفاهيم العدل والحرية ويعزز النسيج المجتمعي، مع نشر ثقافة سياسية مجتمعية إنسانية قائمة على تنمية الوعي الإنساني بمسؤوليته عن شؤون الوطن، فضلاً عن تنشيط دوافع المشاركة السياسية السلمية لدى المواطن، وتشجيع نشوء تيارات فكرية متنوعة بما يفيض إلى إغناء المعرفة في ميدان علم النفس السياسي، ويسهم في التنظير لمفاهيم نفسية ذات هوية محلية.
كما تهدف الجمعية، إلى إقامة أواصر تنسيقية وتفاعلية مع مراكز الأبحاث وأقسام العلوم الاجتماعية في الجامعات، بما يسهم في نشر التفكير العلمي وثقافة المساواة، ونبذ التمييز والعنف، وكذلك تنشيط العمل الأكاديمي المشترك في اختصاصات علوم النفس والاجتماع والسياسة والتأريخ، بما يؤصل العلاقة البحثية بينها، سعياً لاجتراح تصورات فكرية أكثر عمقاً عن مجمل التأريخ السياسي والاجتماعي للعراق.
تحرير: محمد الأنصاري