الكتابة في عصر الإنترنت

ثقافة 2023/07/05
...

 د. عبد الجبار الرفاعي

 في الماضي كنت أستهلك بالكتابة كميات ليست قليلة من الأقلام والأحبار والأوراق، غير أني غادرت القلم والورق منذ سنوات. وجدت قبل فترة أن مجموعة الأقلام المهجورة في مكتبتي قد تحجرت أحبارها، فألقيتها في مكب النفايات. ينحاز جيلي للورق والكتاب، ففي كل مرة يجري الحديث عن المعطيات بالغة الأهمية للنشر الالكتروني، وقنواته، وأشكاله، ووفرته حد التخمة، نصرُّ على أن الكتاب الورقي لن يزول اليوم أو في الغد، وأن النشر الإلكتروني لا يمكن بأية حال أن يزيح ما كان ورقيًّا. منطق الواقع أشد قسوة من منطقنا الرومانسي، ومن حنيننا ووفائنا لذاكرتنا، وما ترسب فيها من ألوان الحبر وأضواء الكتابة بالقلم الباركر وأشباهه.

ونكهة الورق، وجمال المكتبات، وتناسق رفوف الكتب، والإيقاع الهادئ لحضور الكتب في فضاء المنزل. 

لا شيءَ يحمينا من زحف الكتابة والكتاب الإلكتروني، وليس باستطاعتنا إيقاف شلال الإنترنيت الكاسح الذي يتسلط على كلِّ شيء في حياتنا. في منازل الكتّاب، غالبًا تتبعثر الكتب بشكل فوضوي في غرف وباحات بيوتهم، المولعون بالورق كأنهم يستمعون إلى سمفونية تفيض على مشاعرهم رقّةً وهدوءًا. للكتاب بوصفه كائنًا نعيش معه ايحاء مهدّئ لا يتحسّسه إلا أولئك المغرمون بالورق، يتعاطون معه كأنه صديق حميم، يبدّد وحشة عزلتهم، ويخفّض شيئًا من اكتئابهم، ورفيق عاطفة يبوح لهم بما لا يبوحه أقرب الخلان، ومصباح يضيء عقولهم بما لا يرونه بأي ضوء غيره، ومحطة استراحة تبدّد شعورَهم بالقرف والملل، وتكسر نمطية حياتهم ورتابة التكرار فيها. 

لحظة ينخرطون في حوار مع الكتاب: يحدثهم فيحدثونه، يصغون إليه فيُصغي إليهم، يناقشونه فيناقشهم، يشاكسونه فلا يمتعض منهم، يبقى على الدوام يهبهم ما يتوقعونه وما لا يتوقعونه منه، بلا أي ثمن.

  أعرف جيداً أننا كائنات مشدودة بحبل وثيق لما ترسب في أعماق الذاكرة، مَن يصاحب الورق والكتاب عدة عقود من حياته، ليس بوسعه الافلات من شراك ذاكرته، غير أن ذلك كله لن يوقف صيرورة التاريخ، ولن يعطّل ما تفرضه أقدار زماننا، ولن يسمح لنا أن نلبث طويلًا مسجونين في نمط ثقافتنا المألوفة، والإصرار على سلّة أحكامنا القيمية ومعاييرنا المحلية. 

نحن في تحدّ يحكي انتقالًا إلى طور وجودي بديل، نشهد ارهاصاته في سياق التطورات المتسارعة للحياة. 

بالضرورة، سيفضي ذلك إلى تبدل أنماط حياتنا الثقافية، ووسائل تعاطينا المعارف، وعوامل إنتاج المعرفة، وانتشارها كونيًا، وليس بالضرورة أن يفضي إلى المزيد من الضياع والتيه.   

المنطق العصي على التغيير للكتابة، يشدّد على محو كتابات البشر الرديئة كافة بمرور الزمان، إذ سرعان ما تختفي، مهما واكبها من إملاءات السلطة وقهرها، ومهما صاحبها من دعاية، وإنفاق رؤوس أموال لترويجها، ومساعي جماعات لإشهارها، وما تعمله من تهريج وضوضاء. مآلات الكتابة، ومعايير اصطفاء ما هو نوعي ونموذجي من نصوص، في عصر فوضى الكتابة، وممارسة كلٍّ الكتابةِ لكلّ، ربما تبدو للوهلة الأولى مستحيلة، إلا أني أظن أن تميز واصطفاء النصوص الثمينة لا يُعجِز القارئ المحترف. لا يمكن أن يحجب الظلامُ الضوءَ، ضوءُ شمعة بسيطة يفضح الظلامَ مهما كان شديد الحلكة. 

الشمعةُ في ركام الظلام تسفر بوضوح أشد عن شعاع نورها مما لو كانت وسط كتلة نور متوهجة. 

  إن كانت الكتابة تتوالد من المطالعة والتفكير، فبماذا نفسّر تدفق كلّ هذا الكم الهائل من النصوص. بعد شيوع قنوات النشر المجاني، وإتاحتها الفرصة لكلِّ مَن تغويه الكتابة والنشر، أضحى عدد الكتّاب بعدد صفحات الفيس بوك وتويتر والإنستغرام والصحف الإلكترونية والمواقع العامة والشخصية على الإنترنت. 

معظم هؤلاء لا علاقة له بالقراءة والكتابة بالمفهوم الاحترافي. هذه الظاهرة تعبّر عن منعطف بالغ الدلالة، يؤشر إلى انتقال البشرية كلها إلى عصرٍ ثقافيٍّ جديد. منعطف كأنه قدر ثقافي، لا يمتلك المرء حياله خيار الرفض والمقاطعة، لأنه يحيطنا من كل جانب، ويغطي كلَّ فضاءٍ في حياتنا. 

  حتى أولئك القلائل الذين يتعاطون معه بريبة وخوف، ويرونه ضيفًا غير مرحب به، يعرفون ألا أحد اليوم يستغني عن الإنترنت وما يقدّمه من خدمات، وما يؤمّنه من شتى احتياجات الفرد والمجتمع، وما يموج به من بحار المعارف والعلوم والفنون، مما لم يجتمع في حيز واحد، بهذا الشكل المجاني الميسر للاستخدام، مذ عرفت البشرية تداول المعارف والعلوم. إنها المرة الأولى في تاريخ الحضارة التي يخترع الانسان فيها فضاءً افتراضياً موازياً للواقعي، ويومًا بعد يوم يحتجب وراءه الواقع. فضاء يعمل على تأمين المتطلبات البشرية، بحذف كثير من الكلف والمشقة والمعاناة والجهود المرهقة.   الإنترنت ذاكرة بديلة للذاكرة البشرية، وبوسعنا القول انه ذاكرة تمحو كلَّ ذاكرة لا تنصاع لها، أو هو ذاكرة لا تشبه ذاكرتنا الفردية والمجتمعية. الذاكرة مقابل النسيان، الإنترنت يمحو النسيان، وحيث لا نسيانَ لا ذاكرةَ. 

مثلما وفّرَ ظهور الكتابة بداية العصور التاريخية أرشيفًا للذاكرة البشرية، ومنعطفًا بالغ الأهمية، وهكذا كان ظهور الورق، ثم الطباعة في القرن الخامس عشر،كذلك أضحى الإنترنت اليوم أرشيفًا هو الأثرى والأوسع للإنسان، إنه فضاء هائل لا يغادر كبيرة أو صغيرة الا أحصاها وأثبتها وحفظها بلا أن يمحوها. 

الذكاء الاصطناعي يضع الإنسانَ في مستقبل يحاول أن يتفلت من خرائط مستقبل البشر، إذ يخلق عالمًا بديلًا، يحجب الماضي ويتغلب على الحاضر، وبالتدريج يسعى أن يقودنا معه، ويقحمنا في آفاقه غير الواضحة حدودها ومدياتها، وهو يعمل على محو عالمنا المألوف، واستبداله بعالم لا يشبه عالم الأمس، وأخشى ألا يشبهنا. 

لا شك أن الماضي عزيز على قلوبنا، وإنه يصر على فرض حضوره، لكن حضوره أمسى هشًّا في وجوده، لا يزاحم الواقع الذي يفرض حضوره المتعجل، ربما لن يلبث الماضي طويلاً. غالباً ما يحضر الماضي في ذاكرتنا جميلاً، حتى لو كان شقيًا لحظة وقوعه. هذا هو عمل الذاكرة، تشطب ما لا نحب بعد غيابه، لتحتفظ بما نحب. الحاضر الموجع ليس موجعًا إلا لحظة حضوره، لكنه طالما بزغ جميلاً لحظة غروبه.

   من سمات العصر الثقافي الجديد كسر احتكار الكتابة، وتعميمها لكل أحد، وهو تحوّل بالغ الأثر في الحاضر والمستقبل. لست حانقًا أو متشائمًا أو قلقًا من هذا المنعطف المذهل، من تبدّل أنماط التعبير والإشهار والنشر، ذلك أن هذا الفضاء البديل في التمرين على الكتابة والنشر، قدر ما يتضمن من ثرثرة وهذيان وفوضى وضياع، فهو يضعنا للمرة الأولى في تحدٍّ مختلف، يختبر الكتابة الحقيقية في الرهان على تميّز حضورها، ومقدرتها على ممارسة وظيفتها في الابداع، وإعادة خلق وبناء تفكير وفكر مختلف. بموازاة ذلك ستبتكر هذه القنوات البديلة للانتشار أنماطَها المشابهة لها من النصوص، وهكذا أنماطها الخاصة من القرّاء، مثلما تُرسّخ تقاليدَ أخرى للقراءة، وأساليبَ جديدة لتلقّي المعرفة، بل لعلها تصوغ لنا مفهومها الخاص للثقافة والمثقف.  لعل الغد يفاجئنا بنحو تصبح فيه معايير الجودة والانتشار مغايرة تمامًا لما نعرفه، مَن ينتمي إلى تقاليد الكتابة والنشر الورقي من أمثالي، يصعب عليه استيعاب ما تباغتنا به تحديات الثقافة والتثقيف والمثقف الآتية. أرى ذلك وأنا أعيش تجربة أقحمتني فيها الأجهزة اللوحية الجديدة، وهكذا استحوذت على اهتمامي الهواتف مثل «الآيفون»، وأغوتني بساطتها وفاعليتها الآنية المباشرة، وكأنها استدرجتني بما هو مودع بوجودها من تسيد نزعة رأسمالية لا تفكر إلا بالمزيد من الثراء، تفرض عليّ نفسيًا أن أهرول لألتحق بكل جيل جديد منها، وأجيالها تتوالد باضطراد مدهش. 

هكذا تبدلت طريقتي مع هذه الأجهزة في تلقي المعلومات وتداولها وترويجها، لأول مرة في حياتي أجد ذاتي منقادة رغمًا عني، الغريب عجزي حتى اليوم عن التحرر من هذا الضرب من الانقياد. 

منحتني هذه الأجهزة إمكانات مغرية للسياحة والترحال في عوالم لا يوحّدها إلا أنها تتضمن كل ما بحثتُ عنه من كتب نادرة لسنوات طويلة، ولم أعثر عليه، وآفاق فسيحة للمعرفة وبحر بمختلف المعلومات، وكل ما أود معرفته بغرض التعلّم، أو الخروج من الرتابة والملل، بحثاً عن الاستراحة والمتعة، في حالات العزلة والغياب عن المجتمع.

  قبل ربع قرن تقريبًا بدأت استعمل الإنترنيت خارج العراق، وفي العراق واصلت استعماله. 

بالتدريح تحولت كل كتاباتي ومراسلاتي، وأغلب مطالعاتي على الإنترنت.

كثير من الزملاء في جيلي لم يسرقهم هذا العالم مثلما سرقني، إذ اضمحلت مطالعاتي للصحافة الورقية، ذلك أن الصحف كافة متاحة لي صباح كل يوم عبر الإنترنت.كذلك تراجعت لدي حالات العودة لمطالعة الكتاب الورقي، بعد توفّر أعداد لا حصر لها من العناوين، وما أبحث عنه في مختلف المعارف والفنون والآداب. ولم أعد أستخدم القواميس والمعاجم والموسوعات، بعد وجود نسخها الالكترونية محمولة معي حيثما أكون، ففي كل مرة أكتب لا أحتاج إلا وقتًا ضئيلاً لمراجعة مصادر المعلومات لحظة الكتابة، للتثبت من معلومات أدرجها في سياق النص، بينما كان التثبت من معلومة فيما مضى يتطلب مني أحيانًا ساعات عديدة، وربما أيامًا من التفتيش في صفحات المراجع. أتذكر قبل سنوات كنت أحياناً أراجع كتبًا بتمامها، مثل: فهرست ابن النديم، وكشف الظنون، ومعجم المؤلفين لكحالة، والأعلام للزركلي، والذريعة للطهراني... وغيرها، بغية معرفة كتاب أو مؤلف أو معلومة معينة. عادة لا تضم مكتبتي كل ما أحتاجه في كتاباتي، فأضطر لمراجعة المكتبات العامة، أو ما تضمه خزانة كتب الأصدقاء. الظفر بكل ذلك اليوم لا يكلفني سوى استعمال مفاتيح الكمبيوتر أثناء الكتابة، ليكشف لي عاجلاً عن منجم معلومات، يقدم خيارات متعددة لكل

ما أبحث عنه.