الشعر معرياً أقنعة الجحيم

ثقافة 2023/07/05
...

 ساندرا سيموندز*

 ترجمة: محمد تركي النصار

 يمكن وصف ديوان (أفضل بربري) للشاعر الأمريكي روجر ريفز، الذي فاز بجائزة غريفين وهي الجائزة الأرفع في كندا وشمال أمريكا لهذا العام، بأنه تعويذة صلاة تجمع الارث الشعري الغربي، بكل صراعاته وتناقضاته وفوضاه وجمالياته ومحذوفاته، حيث تستعين القصائد بشخصيات منتقاة بعناية، بدءا من سافو إلى جيمس بولدون لطرح سؤال الشاعر الأكثر الحاحا الذي يشغله ويظل يبحث له عن اجابة: (أي كارثة سأمرر إلى ابنتي؟).   ومن الهجاء المرير إلى القصيدة الطويلة التي لايبدو إنها تريد أن تنتهي، إذ كلما قرئت بصوت عال تكون بمستوى طول (أغنية أليس كولترين الملهمة لها) يعيش القارئ وسط  مشهد صوتي هو مزيج من الرثاء الموجع والالهام الصوفي.

تقع قصيدة (عنف محلي) في منتصف الديوان ويرويها لويس تل (مواطن أمريكي من أصل أفريقي حوكم بتهمة العنف المنزلي، ضد زوجته وأعدم بتهمة الاغتصاب في بيزا الايطالية أثناء الحرب العالمية الثانية)، وهو شخصية (دانتوية) يظهر في النص لاهثا محموما في عالم سفلي تمتزج فيه الهلوسة بالغناء، متتبعا أثر مراجع شعرية قديمة وباحثا عن مكان له في العالم الآخر. وكما في الكوميديا الالهية تنبثق الشخصيات الأدبية في ممرات القصيدة الملتهبة، فيظهر (عزرا باوند) الذي يوصف هنا بالقذر والشنيع طالبا أن يلعب دور الراوي لفرجيل، لكن لويس المرتاب من نوايا باوند يهرب مناديا عليه: (ابق هنا ياعزرا في قفصك حرا)...

ومعلوم أن باوند كان من مناصري موسوليني الأشداء، وتم إلقاء القبض عليه بتهمة الخيانة العظمى في بيزا الايطالية من قبل القوات الأمريكية، حيث تم سجنه في قفص حديدي، وداخل ذلك السجن الاسطوري كتب باوند (أناشيد بيزا) وهي من أشهر وأهم القصائد في القرن العشرين.   ولعل قليلين فقط يعرفون بأن (لويس تل) والد ايميت تل (الصبي الأمريكي الأفريقي، الذي تم اختطافه وقتله بطريقة بشعة في خمسينيات القرن الماضي لسبب تافه جدا، وهو إنه مزح مع امرأة بيضاء وسجلت القضية آنذاك ضد مجهول)، كان مدانا بجرائم قتل ومحبوسا في جناح عزرا باوند نفسه، وهذا التجاور التاريخي الغريب مترافقا مع ذكر إعدام لويس تل في أناشيد بيزا، يشير إلى أكثر من دلالة، لكنه بين يدي روجر ريفز الرشيقتين يتحول إلى (وعندما تبدو جميع الأصوات كأنها رجال شرطة، قلت أقتل جميع الأصوات)، هنا يغدو الهامشي مركزيا كطريقة لتحديد التراتبيات الأدبية.ينتقل (لويس) إلى موجهات نصية أخرى: ثلاث فنانات أمريكيات من أصول أفريقية: أودري لوردي، غويندولن بروكس ولوسيل كلفتون، وهؤلاء السيدات الملهمات يخلقن فضاء يشبه المرآة يسمح للويس برؤية نفسه في ساندرا بلاند (ناشطة أمريكية، وجدت معلقة في زنزانتها بالسجن)، فريدي كري وايريك غارنر، الذي قتلته الشرطة في تموز عام 2014 وهو صاحب الصرخة الشهيرة  (لا أستطيع أن أتنفس)، بعد أن ضغط الضابط على رقبته قبل أن يغيب عن الوعي ويتوفى لاحقا، وضحايا آخرون لعنف رجال الشرطة، الأمر الذي استدعى لويس تل لإعادة رسم مقتل ابنه المراهق: مخاطبا من يرشدونه (أين أدخلت نفسي؟)، فيرد الشاعر روجر ريفز في صورة شعرية محزنة جدا راسما أسماء القتلى، وهم يتدحرجون في حقل، مضيفا أنه إذا كان هذا هو الجحيم فما هو الفردوس إذن؟ ليخبرنا بنوع من التهكمية، التي لا تخلو من مرارة: الفردوس هو نهاية الركض واللهاث. يضم ديوان (أفضل بربري) قصيدتين هما (كريندل) و(والدة كريندل) اللتان تعيدان تسليط الضوء على شخصيات غير مشهورة في كتاب  (بيوولف) الانكليزي السكسوني الأسطوري، ففي الأولى يظهر كريندل من البرية، حاملا في صدره نبوءة مطلقة، واحساسا بالشفقة، نهاية ما للجنوح نحو العزلة).

تؤكد الروائية توني موريسون في (كريندل ووالدته) بأن الشر لا أب له، في مقالها عن الملحمة  (بيوولف) مضيفة بأنه: في الفولكلور الأصلي والاسلوب الملحمي، حامل الشر والخراب عادة ما تكون انثى، وفي رأي ريفز فإن هذا الكره للنساء أمر محذوف تماما، فوالدة كريندل كما يصورها الشاعر هي امرأة سوداء غارقة باليأس والإحباط بسبب مقتل ابنها:

عندما ناداني ولدي، من السماء، ناداني لكي يأتي من الصخرة شديدة الانحدار إلى متجر الزاوية، هناك حيث لقي حتفه: ماما، لا أستطيع أن أتنفس،

حتى الآن مازلت أسمعها...

لقد كان ضلعه مكسورا في صباح الطائر الأسود المتوحش

كانت صيحة سمرت السماء إلى الطريق الأسود. صرخة الاحتجاج، التي غدت مشهورة (لا أستطيع التنفس) تعود إلى مصدرها دامي القلب حيث لحظة الخذلان، التي تشعر الأم بها تجاه ولدها، وهو يفارق الحياة مما يعطي لهذه الصرخة توترا متجددا.  في ديوان (أفضل بربري) لروجر ريفز، خليط متنافر من القديم والمعاصر والانكليزية الوسطى، واللازمات الموسيقية التي تعلق سريعا في الوجدان مثل: (بدأنا في القاع، والآن نحن هنا)، تتدفق عفوية مكتنزة بحكمة أوغسطين.

 وبالنسبة لريفز فإنه لا يسأل نفسه، ما الذي سيأخذه من القديس، وما الذي سيتركه خلفه، فبدلا من ذلك يعمد إلى توسيع الاسلوب التقليدي، ليستوعب مفاهيم سياسية جديدة، واستلهامات ذاتية، وحالات من اللعب تعمل كلها لخلق جو من التوهج الشعري. 

 تعتمد قصيدة (سلطة الصمت أو المدينة) على لوحة للفنان فنسنت فالديز عنوانها (المدينة أنا)، التي يقدم فيها رجال (كي كي كي) البيض المعروفين بالتطرف الشديد المناهض للافارقة والمهاجرين والمسلمين واليهود والمثليين، وهم يرتدون أقنعة، وفي مركز المجموعة أمٌ مقنعة، وهي تحمل وليدها المقنع أيضا يتجمعون كلهم في حقل تسطع فيه أضواء عربة شحن، هذا المشهد للعنف بين الاجيال يتناقض كليا مع الجرذ بين أشجار الصنوبر، حيث يركز الشاعر انتباهه على طفلته المرعوبة من رجال الشرطة: (وابنتي المختبئة بين شجيرات الورد تسألني، من هو الشخص الذي يريد أن يقتله أصحاب صفارات الإنذار هؤلاء؟). في الوقت الذي نشعر أحيانا أن الشعر الأمريكي بعيد عما هو جيوسياسي، يربط الشاعر روجر ريفز العنصرية في الولايات المتحدة بالقمع والاضطهاد والقهر السياسي في الكوكب الأرضي كله، ويمكنني القول بأن ما وجدته يمثل الجانب الأهم في مجموعة  (أفضل بربري)، هو الكيفية التي ينظر الشاعر بها لمفهوم الابوة وعلاقتها بالمستقبل وكيفية إعادة صياغة الماضي, وتمثل طفلته التي ترد كثيرا في المجموعة عنصر استحضار للفردوس والعالم السفلي في الوقت ذاته: اليوتوبيا والدستوبيا متسائلا عما سيتركه لها عندما يغادر هذه الحياة، ما الذي يستخلصه من كلكامش واورفيوس وهل إن (هذا العالم المكتوب على الصفحة، ابتداء من النقط السود على الوردة إلى نعيب الغربان يكفي الآن؟ يا طفلتي السوداء) هكذا يكتب ريفز في القصيدة الأخيرة  أنت الماشية على الماء بلا حاجة لسيد يبارك خطواتك/ أنت تعيشين في لغة جميلة.

* ساندرا سيموندز شاعرة وروائية وناقدة امريكية نشرت ثمانية دواوين شعرية 

عن: نيويورك تايمز