شيء عن أصل نظريَّة السعادة والحكم الصالح

آراء 2023/07/05
...

 أ.د. عامر حسن فياض

في الحكمة الصينية القديمة هناك نظرية، إذا جاز لنا تسميتها بالنظرية فهي (نظرية السعادة) التي تقول إن السعادة هي هدف الإنسان وأمله المرتجى. فإذا كانت السعادة هي الخير، وكان الإنسان كائناً اجتماعيا. فإن ما يبذله الإنسان من جهود بحثاً عن السعادة ومن اجل تحقيقها، سيحقق السعادة الشاملة للمجتمع بأسره، أما المسئول عن كفالة السعادة للمجتمع والشعب فهي الحكومة الصالحة التي يعرّفها بدلالة مسئوليتها أو وظيفتها هذه.

ولا بد لتوجيه للنزاعات الإنسانية نحو تحقيق هدفها الأسمى (السعادة) من تعليم الناس وتثقيفهم وبث روح التضامن في نفوسهم، لذلك دعا كونفوشيوس إلى ضرورة توافر درجة من التعليم العام لأفراد الشعب، ورأى أن المواطن المستنير هو ركن المملكة المتين وأساسها الراسخ، وهو ما يمهد لظهور قيادة مرغوبة من الشعب وموضع رضاه وقبوله العام، قيادة تقوم على القبول والترغيب لا الإرغام 

والترهيب. لذلك لا يمكن أن تكون السلطة المطلقة القائمة على القسر والإرغام، بديلاً عن السلطة القائمة على الرضا العام والقبول الاجتماعي المستندان إلى تعليم يلقن الشعب الفضائل والعادات الحسنة. ويقول كونفوشيوس في هذا الصدد «إذا ما حاول حاكم قيادة الشعب بالاستعانة بالسلطة المطلقة، وإيقاع شتى العقوبات لإقرار الأمن والنظام، فسينشد الشعب تحاشي العقوبات غير عابئين باحترام السلطان واحترام إرادته. ولكن إن استعان الحاكم لقيادتهم بالفضيلة وارتكن إلى العادات الصالحة التي يوفرها الشعب، وتنزل بينه منزلة التقديس، فها هنا يرتبط الناس برباط معنوي مكين لتقويم أنفسهم وإصلاح حالهم».ولكن تحقيق ذلك عند كونفوشيوس مرهون بسلوك الحاكم، إذ عليه ابتداءً أن يضع نفسه في موضعها الصحيح، فإن تم ذلك لن تجرؤ الرعية على الانحراف عن جادة الحق والصواب، فإذا كان الحاكم قويماً وعادلاً، فستصلح أحوال المجتمع دون الحاجة إلى إصدار الأوامر وإيقاع والعقوبات، وإذا خرج الحاكم عن جادة الصواب، فلن يستجيب أحد لأوامره، لأن الناس في رأيه يقتدون بحكامهم، فلو صلحت حال الحكام صلحت أحوال الناس والعكس صحيح تماماً. وحين سأله أحد الحكام عن الحكومة الصالحة، أجاب «تكون الحكومة صالحة إذا ما كان الخاضعون لسلطانها سعداء، والبعيدون عنها تواقون للانضواء تحت لوائها»، وعندما سأله أحد مريديه عن أفضل سياسة تتبعها الحكومة تجاه الشعب المتزايد العدد، أجابه «العمل على تحسين أحوالهم المادية ثم يتلو ذلك تثقيفهم». أما قوام الحكم الصالح عنده، فيكمن في عوامل ثلاثة هي «الطعام الوفير، الجند الكثيف، وثقة الناس». وتتدرج هذه العوامل عنده في مراتب الأهمية والضرورة لقيام الحكم الصالح واستمراره، تدرجاً توضحه إجابته لأحد تلاميذه عند سؤاله عن العامل أو العوامل، التي يجب على الحاكم الاستغناء عنها عندما تقتضي الضرورة ذلك؟ بأنه يجب أن «يستغنى عن الجند، وإن كان لا بد من الاستغناء عن عامل أخر فليستعن عن الطعام، لأن الناس لا يمكنهم الحياة دون عقيدة تقوم على الثقة بين الحاكم والمحكوم».وبذلك يكون كونفوشيوس قد أعلن ضرورة وجود السلطة السياسية الحاكمة وحدد طبيعة وظائفها ومسؤولياتها، وعين عوامل قيامها وشروط صلاحها، وربط بين وجود هذه السلطة وإدارتها من قبل هيئة حكومية صالحة. أما وجود الحكومة الفاسدة فيرجعه كونفوشيوس إلى فساد نظم الحكم، عندما يحجم القائمون على أمور البلاد عن إقامة حكومة صالحة تتولى مهمة إدارتها وتدبير شؤونها، سواء كان ذلك الأحجام ناجماً عن سوء نيتهم بفعل جهلهم وأنانيتهم، أو ناجماً عن عجزهم وقصور مؤهلاتهم، والعلة في الحالتين تكمن في تولي الحكام والساسة لمسؤولياتهم ومناصبهم بحكم نظام الوراثة. وافترض كونفوشيوس في المقابل ان إدارة دفة الحكم أمر من الأهمية بمكان مما يستوجب توليته لأكفأ أفراد الشعب وأكثرهم أهلية لذلك وأعظمهم خلقاً وعلماً. وعظمة الخلق والعلم/ المعرفة أمران لا يتاحان إلا لمن حظي بأفضل شروط التربية والتأهيل العلمي. لذلك أوجب كونفوشيوس نشر التعليم بين الناس لتتيسر للمؤهلين منهم والموهوبين والمجتهدين فرصة الارتقاء بأخلاقهم وعلومهم وتطويرها بما يجعلهم صالحين، لتولي مسؤوليات الحكم وحمل أعبائه والقيام بواجباته، التي أوجب أن يعهد بها إلى مثل هؤلاء.وإذا كان كونفوشيوس قد أعرض عن مطالبة الحكام الوارثين بالتخلي عن عروشهم وسلطاتهم، فإن ذلك يعود إلى إدراكه أنه لو طالبهم بذلك، لما لقيت دعوته منهم إذناً صاغية ولا استجاب له احد منهم، بل لكانوا أخمدوا دعوته وقضوا على تعاليمه وهي في مهدها، ولعل هذا ما دفعه لمحاولة إقناع هؤلاء الحكام بان يملكوا ولا يحكموا، تاركين تصريف أمور البلاد والعباد لوزراء يتم اختيارهم، استناداً إلى كفاءاتهم ومؤهلاتهم أولاً وأخيرا. وانتهى الأمر بان يجد كونفوشيوس نفسه وليس أمامه من سبيل لتحقيق ما أمن به ودعا إليه، إلا اتخاذ التعليم أداة لتأهيل الشباب ورفع كفاءاتهم، أملاً في أن يتم اختيار بعضهم كوزراء في المستقبل، واختيار غيرهم للوظائف الحكومية، وتكوين مجتمع واع ومثقف يستطيع بمرور الأيام ممارسة الضغط على الحكام، لتوليه خيرة العناصر المؤهلة وذات الكفاءة لإشغال المراكز السلطوية وتحمل مسؤوليات الحكم وإدارة البلاد.