حلم لا ينتهي مثقفون يعيدون تشكيل خارطة الوطن

ثقافة 2023/07/05
...

البصرة: صفاء ذياب



 مع كل انقلاب يمرّ على العراق، ابتداءً من الانقلابات التي طرأت على حضارة سومر، مروراً بالحضارات الأخرى، الأكدية والبابلية وغيرها، يبقى حلم الوطن قائماً لكل من يريد أن ينام هانئاً.

غير أنَّ هذه الأحلام غالباً ما تنقلب لكوابيس، فما إن نلمس استقراراً ما، حتى ننقلب على أنفسنا، ونبدأ في كل مرّة مرحلة جديدة تمحو المراحل السابقة، بل تحرقها تماماً، فنبدأ من الصفر. ربّما كانت هذه مشكلة العراق، هذا البلد الذي لا يستمر، بل يعيش مع كل مرحلة جديدة قطيعة معرفية وتاريخية- حسب كلام ميشيل فوكو- فتبدأ أحلام جديدة للاستقرار والحياة الكريمة.


هل يصعب على بلد مثل العراق إعطاء حياة كريمة لشعبه!!! ربّما كان هذا الحلم صعباً إلى درجة أننا مع كل انهيار جديد، نحلم بالعودة للانهيار السابق، حتى إن كان على حساب حياتنا، لهذا نكون راضين عن أبسط فسحة أمل تعيد لنا مقولة وطن إلى الواجهة.

والآن، بعد عشرين عاماً من الانقلاب الأكبر، سقوط نظام ديكتاتوري قتل وشرّد الملايين، وبناء نظام جديد يفترض أنه بُني من بقايا أرواحهم وأحلامهم، ما الذي نتمناه في وطن نسعى للعيش فيه بحياة كريمة..

كعراقي يبحث عن وطن يعيش فيه.. لو قُدّر لك أن تعيد تشكيل الوطن، ما الذي تمحوه منه؟ وما الذي تُبقي عليه؟

 

وطن الغد المشتهى

يؤكّد الفنان والكاتب الدكتور جمال العتّابي أنَّ الوطن ليس سؤالاً تجيب عليه وتمضي، كما يصفه الشاعر محمود درويش، إنَّه حياتك وقضيتك، هو حيث يكون الإنسان في خير وسلام، يطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، يغيث ظمأً في عروقي، ويشدّ على خفقات في الضلوع، يأخذ بيدي في يقظتي والمنام، أُحدِّق فيه كي أرى عالمي والغد المشتهى، لأبنائي وأحفادي، لا يصادره السرّاق، تضيع فرص حياتهم، في المدرسة، وحدائق اللعب، أرى فيه مدناً تستفيق وتنهض شامخة بالعلم والقانون، وضمان الحريات الفردية، لا مدن غليان دم، وقرقعة سلاح، وبيادر جوع، ولا تكايا للغزاة.

لم يكن وطني أثراً مهملاً في المتاحف، أو قطعة من نقود، لم يكن سلعة في المزاد تباع، ولا قطعاً من أثاث، لكنهم غيبوا عن ضوئه القمر، كل تواريخنا مسختها سلطات القمع والاستبداد، والأوطان طوتها الحروب بظل الشعارات، ليتهم تركوا الطيور تصدح في شدوها، ليتهم تركوا الشعب يكتب تاريخه، يتكلم إن شاء أن يبني له وطناً يسوّره بالحب والجمال.

 أشكال زائفة

ويرى الفنان والكاتب هاشم تايه أنَّ المشكلة تكمن في أنَّ مفهوم (وطن) كحاضن مستقرّ، مؤهّل لتأمين حياة (مواطنه)، ودعمها بمتطلبات ترقّيه في قدراته، واستعداداته كفرد حرّ، وصولاً إلى صيرورته عضواً فعّالاً في مجالات العمل، والبناء، والمشاركة المجتمعيّة العامّة، هذا المفهوم غائب في (لحظتنا) العراقيّة الراهنة. نحن نتخبّط في جغرافية وزمن من رُقَعٍ غير متجانسة من أخلاط الأمس الغابر وإعاقاته، واليوم المشوّه المحبِط، كأنّنا على رقعة مضحكة منسوجة لتنغيص الحياة، وتقهقرها. وعلى هذه الرقعة لا يُراد للفرد أن يُرى كفرد، بل أن يُرى منصهراً في كتلة اجتماعية من الغرائز الهائجة.

ما يتحتّم محوه أكبر بكثير ممّا سنُبقي عليه.. في السياسة لا بدّ من محو الشّكل الزائف للديمقراطية المحاصصاتية الكاذبة، ومحو الطبيعة المتهالكة للدولة بتمكينها من فرض سلطاتها على الجميع، وضمان سيادتها واستقلالها، ومحو كلّ فرصة لاستغلالها من قبل الفاسدين. سيكون مهمّاً محو السّلاح الواقع بأيدي الجماعات المنفلتة، ومحو كلّ فقرة في الدستور تعوق تمتّع المواطنين بالحريّات المدنيّة العامّة. وفي الاقتصاد سيكون بغاية الأهميّة محو بنيته الرّيعيّة المتحكّمة، بتنويع مصادره، وتوسيع مشاركة القطّاع الخاص فيه. وفي الإعلام والثقافة والفنون لا بدّ من محو هذه اللامبالاة البليدة للمؤسّسات المعنيّة بدور هذا القطّاع الذي يلعبه في مجالات التنوير، والتحديث، وتحرير طاقات الأفراد، بتهيئة البنى التحتيّة المصمّمة أصلاً لاحتضان الأنشطة والفعاليات الثقافيّة والفنيّة، وتوسيع فرص ازدهارها بأشكال متنوعة من الدعم.

ما الذي سنُبقي عليه؟ لا شيء سوانا نحن المواطنين المبتلين!

 

إيقاع مختلف

من جهته، لم يشهد الكاتب كاظم الواسطي، منذ نمّو بذور الوعي الأولى قبل أكثر من نصف قرن، علاقة اطمئنان مع ما كان يحدث من وقائع وصراعات سياسية، جعلت الوطن أرضاً مستباحة لهذا الطرف أو ذاك، بدون أن تكون لهذه الأطراف برامج ورؤى حقيقية، تؤسس لبناء وطنٍ ينعم فيه المواطن بحرية الرأي والمشاركة بالقرار.

لقد صادرت الدكتاتورية مفهوم الوطن، وتحوّلت البلاد في ظلها إلى “حزب قائد” يقمع بممارساته التسلطية، ومفاهيمه الشوفينية، أيّ رأي مختلف، وكان الدكتاتور المرجع الوحيد ومصدر السلطات الأوحد.

وبقينا، نحن الحالمين، نبحث عن وطن خارج أسوار تلك “القلعة الحصينة”، يُعيد ما فقدنا من أحلام وآمال، ويكون لنا فيه مرتعٌ لهناءة العيش.

ولكن ما حدث بعد سقوط النظام السابق، كان صدمة لكل ما كنا نحلم به ونتوقع حدوثه بعد زوال الدكتاتورية. حيث تحوّل الوطن إلى مربضٍ للاحتلال والإرهاب، وفساد القادمين من أجل “التغيير”. ودخلنا في هاوية مديدة التهمت ما تبقى شحيحاً من ذلك الحلم القديم.

ولو قُدّر لي– وهذا من باب الفنطازيا– أن أعيد تشكيل الوطن، فسيكون بعيداً عن كل ما عشناه من اضطراب في حياتنا، وبما يضمن حق المواطن في العيش بحرية وأمان. وما سيتم محّوه من اختلالات في الرؤى والبناء، تتكفّل به إرادة الباحثين عن الحرية والكرامة، وإيقاع الحياة الجديدة هنا.. وفي العالم.

 

محو لا ينتهي

الشاعر حمدان طاهر المالكي، يشير إلى أنَّ هذه أمنية لكل العراقيين الذين فتحوا عيونهم على مصائب البلاد من حروب خارجية وداخلية ومن هزائم كبرى, ربَّما نحتاج إلى عشرات السنين لتصحيح مسارات الإنسان والبلاد, إذا قدر لي المحو سأمحو انقلاب السابع عشر من تموز عام 1968 ورجاله الأنذال من البكر وصدام حسين وصولاً إلى أصغر تابع لهم, سأمحو الشوفينية السوداء من بعض قادة الكرد, هذه الشوفينية والرغبة بأضعاف العراق هي أحد الأسباب الكبرى التي أوصلتنا إلى نتائج كارثية, سيكون علّي الانتباه إلى العشائرية والبداوة وإعادة تشكيلها ضمن قانون صارم يحترمه الجميع, سأمحو الطائفية من خلال برامج تعليمية وثقافية تهتم بالتعايش والإخوة, برامج وطنية تأخذ على عاتقها التعريف بمبدأ المواطنة والكفاءة والعدالة, سأمحو تاريخ الأدب العراقي الذي يستند إلى صراعات حزبية وطائفية ومعه أرفع كل أسماء الأدباء والمثقفين الذين أسهموا في محنة البلاد, لو قدر لي أن أحافظ وأبقي على الأشياء الثمينة للبلاد فأولها آثار وحضارة وادي الرافدين المنتشرة في كل بقاع العراق, وسيكون من ضمن الاهتمام الأهوار العراقية لجعلها محميّات طبيعية وسياحية, سأبقي كل الأشياء الجميلة على حالها من أزياء النساء, ومعها أزياء الرجال من مختلف المناطق, سأقبض مثل أعمى على عصاه على كل ما سطرته أمهات العراق من غناء وبكاء من أجل وطن يحترم الجميع.

 

خريطة جديدة

أما الكاتب فاضل القيسي، فيؤكّد أنّه لو قيّض له أن يعيد تشكيل العراق وبامتلاكه السلطة على ذلك. لـ”محوت ابتداءً حقاً اللقب من البطاقة الوطنية، سواء كان اللقب عشائرياً أو مناطقياً، على الرغم من أني وللأسف أمتلك لقباً قبلياً ألصقته باسمي في مستهل حياتي الأدبية... ولَمحوْتُ من مناهج التدريس مادة التاريخ، كوننا نمتلك أكثر من مدوّنة للتأريخ تتناقض مع بعضها وتتقاتل مع بعضها في أحيان كثيرة. فمن تجده بطلاً في تلك المدونة تجدة في مدونة أخرى خائناً وجباناً. ولمحوت تدريس مادة الدين كوننا نمتلك مدونات عديدة لهذه المادة، ولطرحت بديلًا عنها مادة الأخلاق أو تاريخ أديان... ولمحوت مفردة (مكونات) المتداولة في الدستور، بل لمحوت هذا الدستور بكل ألغامه وأوكلت لخبراء حقيقيين لكتابة عقد اجتماعي جديد... ولمحوت تراخيص الأحزاب الدينية والقومية... ولأبقيت على القضاء ودعمت استقلاليته كونه الركيزة الأساسية في بناء الدولة. ولدعمت الزراعة والصناعة ولخفضت الاعتماد على صادرات البترول... ولدعمت القطاع الصناعي الخاص. ولأبقيت الزامية التعليم.

 

ديمومة الحياة

ويبين الفنان عمار الغرباوي أنَّ الوطن دوماً في حدقات عيون أهلهِ وناسهِ الوطنيين الشرفاء من أجل أن يستعيدَ عافيتهِ ويقف على قدميهِ كما يرادَ لهُ أن يكونَ في مصافٍ أرقى في المنعطفات التأريخية كلّها من حياتهِ نحوَ غدٍ مشرق يليق به كوطن أبهى وأكثر تقدماً وألقاً وفخراً تحيطهُ السعادة ويُسعَد به الناس ويكونَ حضناً دافئاً يلمُ في ثناياه الجميع..

ولهذا يجب الذود عنهُ والتضحية من أجلهِ في مهمة البحث عنهُ والعيش فيه بأمان وديمومة الحياة في تخليصه من كل ما يعيق رُقيهِ وتقدمهِ وإسعادهِ من كل ما يشوبه من منغصات وتراكمات أكلت من جذورهِ الكثير سابقاً ولاحقاً وأبرزها الطائفية والفساد والعمالة للغير وهذه كلها يجب النِضال من أجل محوها والخلاص منها عند التفكير وطنياً بإعادة العمل على تشكيله وطناً جديداً مع إبقائهِ سيداً على نفسهِ مؤطراً بالسيادة الكاملة.