يوم مع فاخر محمّد.. من تهشيم الشكل لإنتاج العلامة

ثقافة 2023/07/06
...

 علي وجيه

وصل د. فاخر محمّد (1954) إلى السليمانية حيثُ أقيم، ومثلما تعوّدنا أن نلتقي، في بابل أو بغداد، باستمرار، لكن هذا اللقاء كان لا يشبه لقاءاتنا المُعتادة، ربّما لأنه كان اللقاء الوحيد الثنائيّ، وليس معنا صديق أو أصدقاء آخرون.
والمفارقة، أنّ فاخر شحيح الكلام بالمعتاد، خصوصاً بالفن، وأبديتُ له هذه الملاحظة في حوارنا، الذي سأذكرُ منه ما أتذكره، قلتُ له "إنّكَ لا تُبدّد طاقتك في الكلام الشفاهي، ولهذا يبدو عملُكَ قوياً، مكتنزاً، حارّاً، وكلّما قرأتَهُ من جديد استجدّ لك تأويلٌ آخر، من كائنات، وعلامات، وحتى في الأداء التقني على السطح"، وهو لا يُبدّدُ تلك الطاقة، لكنه اختار في حينها أن نتحدثَ طويلاً بالفن.
شخصياً أحبّ تجربة فاخر محمّد، وهو من فنّانيَّ المُفضّلين، فهو لم يصطبغ لا بالجماعة (جماعة الأربعة) التي تم تأسيسها في ثمانينات القرن الماضي، ولم "تنزلق" لوحتُهُ إلى "السوق" والتداول البسيط فيما يخصّ البيع، ومن أقدم عمل رأيتُهُ له 1980 (الأرض) المُرفق مع المقال، إلى آخر عمل نشره أو عمل عليه، بقيت لوحته أنيقة، يُسعى لها، لا تسعى لمُقتنٍ أو مشترٍ.
حوارنا كان حواراً هادئاً، استرعى انتباهي تعليقٌ له، على نصّ لي كان في عنوانه مفردة "طريق بغداد – بابل"، ليكتب لي "تحياتي أبا معنى، على هذا الطريق ولدت مئاتٌ من أعمالي"، وقد يبدو هذا التعليقُ عادياً لمَن يعمل على أثرٍ شفاهيّ، مثل الشعر، أو موسيقي مثل التلحين، لكن لا أحد يرسم وهو يقود السيارة.
سألتُهُ:
- دكتور، لم أفهم هذا التعليق، هل تفكّر باللوحة ذهنياً، لتعملَ عليها دفعةً واحدة؟ أم أنك تعمل على تخطيطٍ ابتدائيّ على ورق، ثمّ تنفذه أكبر؟ أم أن الأداء هو لحظيّ بالتعامل مع
المادة والبحث داخل السطح؟
ومثلما توقعتُ، هذا الذهن المشتعل في الداخل، الصامت في الخارج، يطبخُ العمل ذهنياً، ثم يُنفَّذ مباشرةً، مع تعديلات لحظية يحتاجها كلّ فنان.
أكملنا قهوتنا في المقهى، كنتُ قد احتجتُ بعض أدوات الرسم، فاشترى د. فاخر دفتراً عادياً، كانسون، وقلم تخطيط واحداً "ربّما سأخطط بالفندق"، قال لي.
في هذه الأثناء، كانت جمعية الفنانين التشكيليين تحتضنُ معرضاً للطبيعة، يشترك فيه فنانون كثيرون، قلتُ لفاخر:
- ثمة أعمال مهمة، وأداء رائع، لكنني حتى اللحظة لا أفهمُ كيف يكتفي الفنان بأن ينوب عن الكاميرا فحسب، وأن تتحوّل المهمة الفنيَّة من إنتاج الصورة إلى نقلها بشكل "تصويريّ".
بشكلٍ ما، وافقني د. فاخر بهذا الأمر، رغم تدريسه للرسم الأكاديميّ والألوان بالطريقة الكلاسيكية لنحو 3 عقود، وله أعمال في رسم الطبيعة مشهورة، وقال:
- أمس، كنتُ مع العائلة على جبل أزمر، كان هناك مشهد لطيف، بعيد عن الناس. ثم استمر يصف المشهد بطريقةٍ رتّبته تماماً في ذهني، لكن لا بالطريقة المعتادة للجبل الذي أعرفه وارتقيتُهُ عشرات المرات منذ سكني بهذه المدينة، لكنني بدأتُ أتخيّله بمنظومة فاخر العلاماتيّة، ومنظومته اللونية، وأدائه واصطياده للمفردة وإعادة إنتاجها.
نظر لي وقال:
- ركّز على نقطة معيّنة، ولا تتحرك..
تسمّرتُ بمكاني، سحب الدفتر والقلم، انتبهتُ لحظتها إلى أنني لم أشاهد له من قبل بورتريهاً شخصياً أبداً، وأن البورتريه الذي سأراه سيكون لملامحي! هذه لحظة شِعرية بامتياز.
خطّطَ وجهي، ثم أكمل الحديث عن شحنة المكان التي تمنحُ طاقتها للفنان، لكن الفنان يجب أن يكون بإعادة الإنتاج والخلق، لا بالنقل فحسب.
كلّ مفردة قابلة لأن يُعاد استثمارها لدى فاخر، بطريقة تجمعُ بين عفوية الطفولة وخطورة العلامة التي لا تكتفي بالبُعدين، الإشارة الخافتة، التي تحتاج إلى انتباهة وتلقٍ، لا إلى نظر. تحتاجُ إلى رؤية، بصيرة، لا إلى البصر المُجرّد.
في اليوم التالي، اتصل بي، وقال "نسيتُ الدفتر الذي اشتريناه سويةً، وبه عدة تخطيطات، أتمنى أن تمرّ على الفندق لأنني سافرتُ، والدفتر والتخطيطات هدية منِّي بمناسبة العيد".
مررتُ على الفندق، وكانت تلك المفاجأة، التي تُكملُ نقاشنا، خطّط فاخر بقلمٍ واحد، وبلا لون، مناظر طبيعيَّة، وهذه المناظر كانت بخطّ واحد، أي: دون ملء حبريّ أو تخطيط أو ظلّ أو ضوء، وبالتواصل مع حديثنا في اليوم السابق، ومعرفتي بتجربة فاخر، كان التخطيطُ تماماً يتحوّل إلى لوحةٍ كاملة، بمنظومة فاخر اللونيّة والعلاماتيّة.
5 تخطيطات، بقياس 29*21 سم، على ورق كانسون، حملت كلّها عتباتٍ مكانيّة عدا واحد منها، فتخطيط عن "نهر سرجنار"، وآخر عن "جبل أزمر" وثالث عن "أسماك نهر دوكان" والأخير "طريق حلّة – بغداد" وقد بسّط طبيعته، وبيوته، وديوكه بكثير من الاختزال والإشارات.
التخطيط الأخير كان "خروف العيد"، بالنظرة الحزينة على وجهه، والسكّين الذي يعتلي رأسه، والنظرة الساهمة تجاه العشبة التي أمامه.
من أجمل الاصطلاحات التي تعلّقت بتجربة فاخر محمّد كان وصف الناقد ياسين النصيّر لتجربته، في كتابٍ مشترك مع الناقد خضيّر الزيدي، فيقول النصيّر في (فاخر محمد – بلاغة العلامة الحيَّة) :"فاخر محمّد فنّان تدميري، وأعني بالتدميريّ هنا تفتيته للأشكال القديمة، فعندما يأتي بها للوحته لا يبقيها كما هي، بل يغيّر من تشكلاتها ونسبها، وأعني بالتدميري هنا تجزئته للشيء كي نرى تفاصيله وقد احتلّت مساحة تجاورت بها مع أشياء أخرى مُجزَّأة"، ويكمل "إنّه يتبعُ فلسفة الشكلانيين التي تعتمد على بنية الكتلة المنفردة وعلى تجاور الخطوط واعتماد اللون الذي يغطي مساحة أكبر، وأن لا شكل ثابتاً لديه يبقى كما هو، ثمّة عملية تهشيم مستمرة للأشكال القديمة تتم بعفوية مطلقة وبشعرية تخرّب كل الأشكال الثابتة".أ.هـ.
تأملتُ طويلاً بتلك التخطيطات، رغم أن لدي في مجموعتي عدداً لا بأس به من أعمال د. فاخر محمّد، لكن إنتاج العلامة في ذهنه، بمقاربة النصير، والتجزئة، فضلاً عن التبسيط وإعادة الترتيب، كان الحوار الثنائي بيني وبين التخطيطات هذه المرة. لا مع صاحبها، رغم أن في مجموعتي عملاً غير مُعنون، يمثّل امرأة، مع علاماته المُبسّطة، يعود لمرحلة شبه مبكرة أيضاً من تجربته 2002.
ليلاً، تصلني رسالة من د. فاخر محمّد، وأنا أتأملُ هذه التخطيطات، لتكملَ حوارنا ويقول:
"عندما يرسمُ الرسّامُ الطبيعة عليه أن يغلقَ عينيه كما يقول بيكاسو، ليصل إلى غيبها المكنون ووحدتها الكبرى في تأليف عناصرها، فهناك عناصرُ كونيَّة كالوحدة والتكرار والتجانس والتضاد، وهذه كلّها لا يُمكن أن تُرسم من خلال الرؤية الأكاديميَّة، يجب أن نبحث عن قوانين جديدة لنقترب من جوهر الطبيعة أكثر، عندما نسقط في الموت ستكون أوراق شجر كثيرة قد سقطت قبلنا، هناك وحدةٌ وتقارب في حياتنا وحياة مكوّنات الطبيعة، حتى التراب، سنتشكّل معه يوماً، إذن لماذا لا نؤلّف رؤيتنا من هذا المفهوم؟ أنا والشجرة وصمت صخور جبل أزمر والحشرات والطير: واحد!".
لم أعرف لحظتها، هل فرحتُ بهذه الرؤيا من فاخر أكثر، من خلال الرسالة، أم بالتخطيطات؟ أم بكليهما؟