الزوائد السرديَّة بين الهامش والمتن

ثقافة 2023/07/06
...

 وارد بدر السالم
ينشغل بعض الكتاب في تسريد الواقع بوجهات نظر مختلفة. كأن يبتعد عن الهوامش الحياتيَّة في المجتمع ويرى بأنها عبء على النص، بينما ينشغل غيرهم بضبط وقائع يوميَّة وتحويلها الى جوهر آخر في الكتابة، باعتماد الكثير من الهوامش لتجسير الواقع بجزئيات صغيرة قد لا يراها غيرهم. وهذا فحص استثنائي في تقديم الهامش بوصفه صالحاً لرفد المتن في النص ببنيات صغيرة، ليست حمولات زائدة عن المتون الأساسية للنصوص.
واذا اتفقنا، من حيث المبدأ، مع الجاحظ بقوله إنَّ المعاني مطروحة في الطريق، فنعتقد بشكل عام أن المعاني ليست كلها صالحة للكتابة ومحفزة للخلق للإبداعي. بل إن أغلبها لا يصلح للمداولة السرديَّة والشعريَّة. مثلما نعتقده فائضاً أكثر من كونه معززاً لقيمة السرد وخياله اللغوي والشكلي في التناسب المحسوب فنيّاً إبداعيّاً. فما كل جزئية في الواقع صالحة لترميم النص أو إعانته
فنيّاً.
وإذا كانت المعاني متعددة المناشئ والأسباب، فإنَّ بعضها أو الكثير منها، ليس ذا فائدة سرديّة يمكن الاعتماد على وجودها داخل المتن الكتابي. فما لم يقله الكاتب بشتى ضمائره التي يعتمدها في البنيات الصغرى والكبرى في النص، يعني بأنّها غير فاعلة في النص. وتجرّد الخيال من محتواه الذي يعمل على توطيد العلاقة بين الواقع والنص والخيال الإبداعي. فما من سرديَّة روائيَّة ناجحة أخذت الواقع كما هو، وشيّدت عالمها على بنياته المتعددة، بل الموازنة الخالقة هي بين الواقع وخياله متعدد الأبعاد والزوايا عبر اللغة
المبتكرة.
فلا يمكن أن تكون حشرة صغيرة يدعسها عابر سبيل من دون أن يدري، هي معضلة سرديَّة. مع أنّها ممكنة وواقعيَّة كحدث هامشي صغير جدا؛ ولا نعتبر عطاس امرأة في الشتاء حدثاً سرديا مهماً. ولا بكاء طفل يريد حلوى. ولا توسل متسول هي فاجعة. ولا نباح كلب بري. ولا عطش عصفور في درجة حرارة 45 هو معركة بين الصبر
والعطش.
كل هذه الهوامش تسمى (اللا أدبي) أي ما هو فائض عن الأدبي المَتْني، وهذه تثقل النص بلا مردود فني كما نحسب. ويمكن أن تسمى بـ الحذف المقصود، لترصين بنية أكثر عمقاً من سطحية البنية السردية التي تتكون من المتون والهوامش اللازمة، لا الطارئة، كدعس حشرة من رجل عابر، وعطش عصفور في ظهيرة صيفيَّة عراقيَّة. وهذه حسابات بعض السرّاد في الرواية والقصة القصيرة.
لكن لا يمكن إنكار أن بعض الجزئيات لا تكون طاردة دائماً لمسارات النص، لا لأنّها موجودة واقعياً، بل لأن قيمتها السرديّة تكرّس الى حدٍّ ما القيمة الثيميَّة للنص، فتملأ فراغاته، وتجسّر فقراته وصفاً وتغذية بينيَّة، تسهم الى حدٍّ معين في امتلاء النص، وتُشغل مكوناته الطبيعيَّة بالأثر، كما تعظّم تكوينه الفني، وتضفي عليه لمسة الجمال
المطلوبة.
العين الأدبيَّة قد ترصد ما لا يُرصد. لكن ليس كل ما يُرصد هو المعنى الجاحظي الذي أوردناه، فقيمة المعاني هي في إسنادها الخيالي الذي يتحول الى فاعل حتمي في ترصين النص، وسوى ذلك يكون عبئاً على الكتابة وحشواً غير
مبرر.
فالجزئيات الحياتية الهامشيَّة تتكاثر بطريقة يوميَّة، لكنّها تحتاج الى رؤية خيالية فاعلة لتدوين الهامش على أنه أحد فواعل الكتابة. فاللا أدبي هو أدبي أيضاً. لكن ليس كل لا أدبي يسد الفجوات النصيَّة ما لم يتم التعامل معه على أنّه متنٌ مهيّأ ليأخذ دوره العلني في إقامة العلاقة بينه وبين الجزئيات الأخرى في النص السردي. وبخلاف هذا يصبح زائدة سرديّة ترهّل النص من دون فائدة. وبتقديرنا فإنَّ الخيال يلعب دوراً مهماً في تحريك الهامش لأخذ موقعه الطبيعي، من دون أن يكون عائقاً يضر في البنية العميقة
للنص.
الخيال ينشأ في جوهر اللغة وعقلها ونبضها، ولا يمكن أن ينشأ في عقل الواقع وجوهره، فالوقع إن كان جامداً أو متحركاً هو صور مختلفة تتردد أمام النص. والمعاني تتعدد أمام الكاتب، والجاحظ يُدرك بالتجربة، أن كل عنصر مهما كان هامشياً ولا أدبياً يتحرك أو يتجمّد في الواقع، هو خميرة كتابيَّة. لكن الخميرة تحتاج الى (عجّان) ماهر ليحولها أرغفة سرديّة قابلة للهضم، فالهوامش اللا أدبيّة الكثيرة، مكتظة في ذاكرة الكتابة في
الأساس.
لذلك فتنشيط الخيال والإحساس به كعقل موازٍ لعقل الكتابة، والعودة به الى خيال الكتابة، أمر قد لا يحسنه الكثيرون، فـ (الخيال عقل نادر) كما كنت أشير الى الكتابة الجانحة عن الواقع، لأنّه من أساسيات توسيع اللغة واستدراجها واستخلاص جوهرها. فالخيال وُجد قبل اللغة. والتحاق اللغة بالخيال هو تطبيع سحري للواقعة الهامشية
مثلاً.
سرّاد أمريكا اللاتينية على سبيل المثال (ايزابيل الليندي. ماركيز. يوسا..) استقطبوا الكثير من الهوامش الاجتماعية، قبل أن يستقطبوا اللغة المناسبة لتثوير الواقع وتحويله إلى (مادة) أخرى. ومن ثم خلقوا الموازنة الصعبة بين الخيال واللغة والواقع، لتكون الواقعية السحرية في أبهى صورها العظيمة، التي خلقت معها شكلها الفني
المتوازن.
وإذا كانت المعاني الجاحظيَّة مطروحة في الطريق، فالحاجة الى عنصرين أساسيين لتحويل الهامش الى متن، واللا أدبي الى أدبي، هو في اللغة وخيالها اللا نهائي القدر على تحويل المادة المتروكة الى
كنز ثمين.