طالب عبد العزيز
تربكني التجارب الشعريَّة الذهنيَّة، ولا أجد ضالتي بقراءتها، فأنا ميّال الى قراءة ما يدل بمعناه، ويقترب باستعاراته، ويصل الروح من دون إيحاءات، وأجدني في ما هو أرضيٍّ، وقريب، وحسيِّ أيضاً، لكنني، أدرك تماماً بأن نصوصَ أصحاب التجارب الذهنيَّة تلك مقدرٌ لها بأن تمكث طويلا. هناك من يعمل وعيه قارئاً، وينشب مخالب تفكيره باحثاً ومستقصياً، وبيننا، من لا يجد في قصائد ناظم حكمت ونيرودا ولوركا وروبرت فروست.. أسباباً لقراءتها، مع يقيني بأنه رهان صعب، واصغاء لدويٍّ لم يسقط حائطه بعد، وأن العازفين عن قراءة هذا النوع من الشعر يمتلكون الحق، فالعصرُ مكتف بما فيه من العقد، وباستحالة حلولها أيضاً.
أقرأُ في كتاب الشاعر عادل مردان (كتابُ جامع الاصداف) -تهويمات الحاضر- فأعْمِل ذهني بقوله: «يوم الشجار أسود/ حتماً، ستنحاز مكنستُها الكهربائية الى القوارير» أو «أذيب خجلكِ في إناء الجمر/ يا سمكتي المرقطة بالذُّهان» أو «حناجرُ سائلة على حاجز الخشب/ رائقٌ مزاجه اليوم/ آكلُ النمل يتمنى/ الصعود الى شرفة الغناء»، وأعود بذاكرتي الى مجلسنا بمقهى أبي نجاح، نهاية السبعينات، وبعض مفردات حديثنا عن بناء ولغة القصيدة، فأجدني ما زلتُ عند عتبة اللقاء ذاك، بينما راح هو يركّب قصيدته بحسب مشيئته، كلُّ بيت يتفلتُ من الآخر، وما أجده مخروماً يجده تاماً، يجرّدُ المعنى الى أبعد حدوده، ويمنتج نصوصه، فلا يكاد يسلم نصٌّ عنده، وبما يضطر قارئه فيه الى البحث في المسودات. أردتُ أنْ ألمَّ (شتات) القصائد هذه فلم أقدر، وهنا أعترف بأنَّ آلة التلقي عندي يعوزها الكثير. تقول فرجيينا وولف، التي دلّني عادل مردان باكراً على قراءة روايتها (السيدة دلاوي): «ليس بإمكانك أنْ تجد الهدوءَ بتفادي الحياة»، فأقول إذن إرباك الذائقة أكثر أهمية من التسليم بجدوى قناعتها، والشعر يكمن في التضحية المُدْرِكة بالكلمات، و»كل يقين زائف لأنَّ الشعر الحقيقي هو الذي لا نجدُ أجوبة له» بحسب برنار نويل. يريد عادل من قارئه ألا يذهب قصيراً في التأمل، فيما يذهب فيه الى أبعد ما يكون، غير معني بعودته خائباً، فالخيبة عنده لا تعني فقدان الأمل بالعودة ثانية اليه، وهذا جورج باتاي يقول: «عميان سيقرؤون هذه السطور/ في أنفاق لا نهاية لها!! . إذن، نحن أمام جامع الأصداف، ومتصفّح غبار الأزمنة، وبهلول الكيمياء، الذي يعجن المعادن، ويعيد الأواصر الى أصولها، ثم يؤاخي بين المركّب والمركّب، يريد من اللغة أنْ تتحد داخل مفردات قصيدته.
الحقَّ أقول، إنني قلّما سمعته يتحدث عن أثر الكيمياء في شعره (وهو أستاذها) ولا في حياته، لكنني، أقع على أثرها في العديد من قصائده. هناك عقل يعمل على وفق قاعدة اتحاد وتنافر العناصر داخل لغته وشعره، أكثر من عمله في الكيمياء، ومختبر عادل مردان مركّب وصعبٌ، وغيرُ مرئيٍّ، ربّما، لكنه ممكن بمعنى يفهمه: «الهدوءُ سلامك الداخلي، يامن أفنيت أيامَك بالكلمات». يسميه بعضُنا (القانط) للفظ ورد في بعض قصائده. عادل القانط أكثرنا يأساً بقدرة الحياة على استعادة نفسها، فهو يدرك وبوعي مطلق بأنْ لا قدرة لأيِّ مخلّص فِعليٍّ، أو يلوّح في الرؤيا حتى برفع نَير الأيام عن رقابنا: «ذلك لأنَّ الحياة فصلٌ جهنمي أكثر من قدرة الجحيم». الشعر الحقيقي عنده نوع من الهذيان المُدرَك، وهو يعي ذلك تماماً، ونجد أثره في بعض قصائده، تخوننا لحظة إدراكه، لكنها عنده تامة، وتجيب عن أسئلتنا: «لا أريدها منسوجةً من حروف فقط/ بل تقصفُ بعمق/ درونز مفخخة في فضاء التلقي». نحن أزاء شاعر يسكن مختبرين متنافرين بجملة العناصر، لا يجمعهما جامع، ولا توائم بينهما لغة، فلا غرابة بطغيان هذا على ذاك، لأنَّ العناصر تلك تبقى فاعلةً في تضادها الأزلي داخل شعره. (أذيب خجلك في إناء الجمر/ يا سمكتي المرقطة بالذّهان) «لكنه مثل كل الذين حاروا بخلاصهم يرى في هدوئه سلامه الداخلي، وأنَّى له ذلك، هذا المسكون بالشعر واحتدام اللغة وحفنة المباهج المتبقية التي بين يديه، وقد أفنى أيامه بالكلمات: «كلماتي العواهر تتعرَّى في غرفة الضيوف/ قلقي يغرِّد على الاريكة/ أنا كاريزما، ولائق للنجوميَّة/ عندما نسيتها في الحمّام»، نلاحظ أنّه قال (عندما) في تأكيده للإهمال والنسيان، ولم يقل (تلك التي نسيتها في الحمام) والتي تعني السهو والندم، هو يسخر من الامجاد الزائفة تلك. «هناك، في صحراء العالم صوت جارح/ يقطّع سكون الليل» يرى عادل الأمجاد المتأتية من الشعر بوصفها بلهاً «هذا الذي يضطجع في مقصورة الثناء».
يدخل عادل مختبره هادئاً، لكنَّ هدوءَ المختبر هذا لا يعني مواءَمة العناصر أو تسليما بما سيحدث وقناعة صاحبه بالنتائج، ففي روحه محتدمٌ أبديٌّ، والى جوار مختبره هذا مختبرٌ آخر، مختلف عنه، ومفارق له، أنشأته ذهنيته القرائيَّة المفارقة ايضاً، التي رافقته منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، والتي ظلَّ أمينا عليها، فذاكرته تزدحم بعشرات العناوين والمسمّيات والوقائع، أخذتْ من عوالم اليأس والقنوط مادتها الأولى، فهي التي رافقت فرجينيا وولف في السيدة دالاوي، واتصلت بسلامبو/ فوبلير، واقترنت بتمجيدها لملارميه، مع توقفها الطويل عند كافكا وسواه قبل دخولات الحلاج وابن عربي والنفّري وسواهم عليها، لتخلق عنده نوعاً شعرياً فريداً (صوفيةً مُلْحِدةً) تضافرت على بنائها آلتا القنوط والسكينة معاً.
تقترب تجربة عادل بوصفها تجربة داخلية من تجربة جورج باتاي، الذي رفض أن يكون سعيداً، أي أن يكون ناجياً - السعادة معادل النجاة- لأنَّ التجربة الداخلية صراع لا يتوقف ضد (الأكاذيب المجمّدة) -عبارة ملارميه- هذا الذي واجه العدم، وإذا تتبعنا جورج باتاي نجده كثيرا في ملارميه، وفي شرقيات باتاي سنعثر على شيءٍ من عادل مردان. يقول برنار نويل عن تجربة باتاي: «ليست العبقرية الشعرية هي الهبة اللغوية، التي يتبجح بها بعض الشعراء، إنما هو الحدس بخراب ظل انتظاره سريّاً حتى تنفصل عنه العديد من الأشياء الجامدة». في (كتاب جامع الأصداف) يَغمدُ عادلٌ سكينه في لغته، يريد أنْ يخلّصها من الجمال لكنه لا يذهبُ بها الى القبح، وينتشلها من الكذب لكنه لا يأخذ بيدها الى الصدق الزائف، يمشي معها الى حافة المعنى، لكنه يخذلها عند كل مجهول، يخون لغته لكنه يغمرها بالوجود الإنساني: «يقرفص تحت صفصافة في حديقة المشفى/ أسماله بيضاء على العشب/ كارهُ الضوء».