سمير أميس في الهور

ثقافة 2023/07/08
...

  محمد مزيد

شاهدتُ على مسافة قريبة، من الصريفة التي أسكنها في هور الجبايش، امرأة تجلس على حافة الهور، تعطيني ظهرها، يلامس شعرها الذهبي مؤخرتها الكبيرة، ترتدي ثوباً أخضر مكشوف الذراعين، مزخرف بحبات فضية، تتلامع مع شمس الصباح .
ارتبكتُ، ذعرتُ، لا أعرف ماذا أفعل، هذه المرأة غريبة، ربما جاءت مع وفد سياحي أجنبي فأضلّت الطريق. اتجهت إليها، أسير بخطواتٍ بطيئةٍ، خوفا من المفاجآت، أو من هروبها مني، أو من ملاحقة رجال الامن، لما وصلت اليها، تنحنحت، الا أن المرأة لم تلتفت إليَّ، شعرت بالضعة، كيف يمكن لامرأة أن تستمع إلى صوت رجل في مكان مجهول، فارغ، ليس هناك سواهما، من دون أن تلتفت اليه؟ تنظر إلى الهور بترفع وشموخ وكبرياء، ينتصب ظهرها ورقبتها، كما لو كانت تمثالا من المرمر، نظرتُ اليها، بعد أن وقفت بجانبها. قالت لي من غير أن تنظر اليّ :
- أأنت من هذه البلاد؟
جلستُ بجانبها، شممت عطرها، لم أشم عطرا في حياتي مثله من قبل، عطر فواح، نقلني إلى الطبقات البعيدة من الهدوء والجمال، قلت مرتبكا:
- نعم، أنا من هذه البلاد، نقلوني من العاصمة، من أين أنتِ؟ يبدو أنك غريبة، هل فقدتِ مجموعتك السائحة؟
نظرت إليّ بالطريقة نفسها التي كانت تنظر بها إلى الهور، بشموخ وكبرياء.
- أنا من هذه البلاد، عشت هنا سنوات طوال، حكمتها في زمن ما، لكنني لا أعرف الآن في أي زمن؟
ازداد ارتباكي، عيناها تشبه المياه الخضراء، ولون ثوبها المخرم أخضر، حتى أساورها من العقيق الأخضر، تضع الذهب والفضة على جيدها ومعصميها بلون أخضر. قالت:
- انا سمير اميس ملكة الآ’شوريين، جئت إليكم بعد أن ضاقت بي السبل، أنتم شعبي الطيب الذي لا يستحق ما فعل به الطغاة في كل العصور التي مضت.
همّت بالنهوض، فأعطيتها يدي، لأساعدها، بدأت أخاف عليها من الصيادين ورجال الامن. إن اكتشفوا وجودها، لن يتركوها. مدت إليّ يدها البيضاء مثل الثلج، وضعت باطن كفها الرقيقة بكفي المتخشبة، ثم نهضت .
سرنا إلى صريفتي، أنظر اليها بطرف عيني، إلى ثوبها المخرم ذي الفتحات العديدة من فخذيها، أستمع إلى رنين الأساور التي وضعتها في قدميها، تنتعل خفا من اللباد الأخضر، تعبر مشيتها عن الخيلاء والشموخ والكبرياء، مشية ملكات.
دخلنا إلى الصريفة، كانت قد تسللت أشعة الشمس، عبر فتحات سقف الحصران فأضاءت المكان. لا أملك سوى سريري، فأخذتها إليه، وأنا مازلت ممسكا بيدها الدافئة الرقيقة، رجوتها، بإشارة من يدي، بالجلوس على السرير.
لم تجلس، بل استلقت على ظهرها، وهي تنظر إلى سقف الصريفة، لاحظت جمال الجسد الأبيض، يكاد يدهرني، وقد برز فخذاها المرميان. تسارعت ضربات قلبي بشكل جنوني، وأنا أنظر اليها، بعد سنوات من الجفاف والتصحر في جسدي، بعدم معاشرة أي امرأة، بدأت مساماتي تتراقص فيها الدماء، قلت لها ببلادة فاقدا صوابي :
- يعني أنت ملكة؟
ضحكت بهدوء، ظهرت أسنانها البيض مثل اللؤلؤ، نبرات ضحكتها تشبه الموسيقى.
- لقد اخبرتك، أنا الملكة سمير اميس، هل سمعت بأسمي من قبل، جئتك من متاهات التاريخ، أنا ابنة هذه الأرض.
أصبتُ بالدهشة، وهي تتحدث باسترخاء، صدمتُ بما يجري لي، هرعتُ إلى طعامي، قدمت لها كأسا من حليب الجاموس. عدلت نفسها، تناولته بأصابعها الرقيقة، نظرتُ إلى شفتيها الورديتين، وهي ترتشف منه قليلا، ثم وضعت الكأس على منضدة بجانب السرير أستعملها للكتابة، عادت إلى الاستلقاء، وقالت:
- سحرني هذا المكان من قبل، كنا في مملكتنا الاشورية نتراسل عبر جنودنا مع ملوك هذه الاهوار الشاسعة، حتى أنني غزوت بلاد فارس من هذا المكان واخضعتهم إلى إرادتي سنوات طوال.
اختلطت عليّ الأمور، لا أعرف ماذا أسأل، لا أعرف ماذا أقول، فهل هي حقيقة أم خيال؟ تأكدت من نفسي إنني لستُ مخبولاً ولا أحلم:
- ولكن ما قصة مجيئك إلى هنا؟
ضحكت تلك الضحكة الساحرة بصوتها الموسيقي:
- انا ابنة غير شرعية لكبير آلهة الأسماك، ألتقطني مزارع فقير بسيط، رباني، علمني فنون الحياة، ولما كبرت شاهدني ايلام وزير الملك، ولما وقعت عيناي عليه، أعجبتُ بضحكته ووسامته وشبابه، اشتعلت في قلبي شرارة حبه منذ اللحظة الاولى، ولم تنطفئ إلى هذا اليوم. طلبني للزواج من والدي، بعد أن أغرم بي بشغف، كاد يجن حبا بي، وهو الوزير الذي يعتمد عليه الملك بإدارة المملكة، بعد الزواج رفض أن يخرجني في المناسبات والافراح والاعياد، خوفا علي من العيون، وفي يوم وأنا ساهية، خرجت إلى الشرفة، كان الملك مقبلا لديه حاجة ما عند زوجي، فشاهدني، أخبرني بعد شهور عن ذلك، قال إنه لم ينم ليلته في ذلك اليوم الذي رآني فيه، ليلتها أرسل على حبيبي وزوجي، طلب منه ان يتخلى عني، مقابل الإبقاء على حياته، صرت زوجة الملك، وفي قلبي شعلة الحب لا تنطفي إلى حبيبي الذي قتله بعد أيام من زواجي منه.
بعد سنوات، في لحظة صافية بيني وبين الملك، قال لي أطلبي أي شيء، سأجعله بين يديك الان، فقلت له، أريد أن أكون أنا الملكة بدلا منك، لمدة خمسة أيام فقط، أصدر الملك أمراً لأكون أنا الملكة بدلا نه. أول قرار أصدرته بعد تتويجي، طلبتُ من الحرس إعدام الملك فورا، صرت ملكة بشكل حقيقي ودائمي، قتلته ليس حبا بالقتل، بل انتقاما من زوجي حبيبي الذي تأججت جذوة حبه في قلبي شعلة لن تنطفئ، شوقا اليه إلى الابد.
ترقرقت عينا الملكة بالدموع، ثم نهضت، سارت إلى باب الصريفة، خرجت منها، وسط دهشتي وذهولي، لاحظتها قد دخلت إلى مياه الهور، تسبح فيه مثل سمكة ثم غاصت إلى أعماقه.