عباس جابر.. عوالم الطين ومنحوتاته الغرائبيَّة

ثقافة 2023/07/08
...

 نصير الشيخ

  ـ تشكل أعمال النحات عباس جابر بنية تكوينية منفردة ومتفردة، يأتي تفردها كونها تنتمي لذاتها، باختفاء المؤثر الخارجي عنها دائما (المدارس) الغربية في فن النحت.
ولأنها بنية تكتفي بذاتها على مستوى الشكل والمضمون معاً، فالشكل بدءًا من الخامة (الطين المفخور) هو المادة الأولية والأصلية لعباس جابر.. لذا فهي المادة الأساس لتطويع افكاره، واختزال رؤاه، والتي رافقت اصابعه وتشوفاته منذ الثمانينيات من القرن الماضي.. وكأن أصابعه تعجن التاريخ كأثر رافديني، وترسم الجغرافيا لتحدد ملامح شخوصة ومديات الفكرة لديه، منطلقة من وجع بعيد رافق التواريخ العراقية وهمها المستديم.
منحوتات صارخة على الدوام، مثقلة بمضامين كبيرة، تهمس بصوتها الاحتجاجي، بتعبيرية راسخة في جسد العمل الفني الطيني، منتمية لطوبوغرافيا الواقع العراقي في تجسداته (رجل، طفل، حشرة) لا تخفي اشكالها الغرائبية وأبعادها الوجودية وهي تتشكل كوجود قار في فضائها المكاني وخارج اطارها الزماني.
من هنا كان لـ «عباس جابر» حصة كبيرة من الظل الثقيل الذي القي على تجربتهِ، ولم تأخذ حقها من الظهور الفني والاشهار الاعلامي، رغم فرادته في النحت على الطين، وللفنان الذي ارتضى المكوث تحت هذا الظل اسهامة لازمة له، ولطبيعته الاجتماعية وانزواءه عن الأضواء ما يبررها... لا يمكن مقارنة تجربة عباس جابر النحتية، الباعثة دوما على اسئلة ضاجة، والمقترنة بالتوهج والاحتجاج، بتجربة الراحل الفطري  (منعم فرات) وكليهما استلهم الدرس الحياتي لتنفيذ فكرته وخواصها، واقصى الدرس النظري بعيدا، ومضى على ضفاف انهاره العذبة قرب مقالع الطين ودفء نبضه، بعيدا عن رواق (الأكاديميات).
فمنعم فرات، تميل اعماله الطينية إلى البساطة متمثلة بوجوه بشرية نألفها، لا تلغي محاكاتها للطبيعة البشرية... فيما تمثل اعمال عباس جابر (كونا وجوديا)، يغلي بالكثير من الأسئلة والشك والاحتجاح حتى ولو بصيغته (النقدية)، ومن ثم مُسألة الآخر عن الفواعل المدمرة لمسخ الإنسانية.. وسلب البشرية طبائعها الربانية التي بعثت من أجلها لتكون خليفة على الأرض، تعمر وتصنع جمالاتها حتى ولو في حدود الحلم.
 نسأل عباس جابر عن كيفية فهمهِ لغة الطين، ولماذا هو خامته الأولى: (كان الإحساس الأول هو الصرخة وأنا في بطن أمي.. لزوجة الطين بدأت مع حواسي وأصابعي، كانت لزوجة الطين تأخذ حرارة جسمي.. أي منذ الطفولة كانت علاقتي بالطين علاقة حميمة.. والطين هو الوجه الأول للأرض وأشم به رائحة من نوع خاص.
وكان الطين (الحري) ورائحته التي تتخلُ مساماتي تحولت عجينة بمرور الأيام إلى أشكال ومنحوتات لا أعرف كنهها.
وكان لقرب دارنا الصغيرة من (المسناية) على شط العمارة هي التي أوجدت هذه العلاقة مع الطين كخامة تتلاعب بها أصابعي وبمرور الزمن اكتشفت أن الطين ومنحوتاته يشكل لي عالما يقترب بي من الجنون.
وهكذا يبدأ العمل بعد أن أطوي كتل الطين الحري وتتحول إلى أشكال عديدة، أضعها في (كورة) تبقى لمدة يوم كامل تتحول إلى طين مفخور أي (مشوي) هذه العملية تجعل قطعة الطين متماسكة ومعبرة عن موضوعها لذا أن (الشوي في الفرن) يجعل منها موضوعا لا يتكرر، أي أنه محاولة لثبات الموضوع لسنوات طويلة، وهذا دليل ارثي وتاريخي الفني.