جواد علي كسار
بناء الهوية الوطنية وتعزيزها بالتنمية ومن خلالها، هو أمر واجهته عملياً ولمسته عياناً في تجربة عشتها صيف عام 1986م، عندما أمضيت شهراً في السعودية.
فبرغم الكثافة المشهودة في التطوّر العمراني، والطرق والجسور والنقل والمواصلات، والخدمات وقبل ذلك صدمة مطار جدّة، إلا أنني فشلت في أن أعثر في الشوارع والساحات العامة على مدار شهر كامل أمضيته بين جدّة والمدينة ومكة المكرّمة، على صورة دعائية واحدة للملك أو لأمراء هذه المدن، فضلاً عن مثل تلك اللافتات التي كان يحفل بها بلدي ومعه أنظمة الموجة الثورية، وهي تشيد بالقائد الضرورة، وتمجّد بعقله ومنجزاته، وتشيع أفكاره ونظرياته، وتحوّل كلماته إلى شعارات، وخطبه إلى قرآن يوازي قرآننا المقدّس، وتشكر مكرماته، وتربط كلّ إنجاز بعبقرياته الفذّة، وسهره على خدمة الوطن والمواطن!
أعتقد أن الأمر لم يكن حكراً على السعودية وحدها، بل يمتد إلى بقية شقيقاتها الخليجيات، فالشطر الأعظم من الوطنية في تلك البلدان، وحبّ الناس لها والالتصاق بها، لم يأتِ من خلال «معلقات» الأنظمة الثورية وأحزابها الشمولية، بل جاء من خلال العمران والحياة الرغيدة، وتوافر الخدمات ولا سيّما الصحة والتعليم، واستقرار المعيشة، والدخل القومي المنافس، وكلّ ما يرغد الحياة، ويظهر المروءة والمكرمات.
وهذا ما يفسّر لنا إلى حدّ كبير هامشية تيارات الوطنية الأيديولوجية في تلك البلدان، وعدم رواج أفكارها ونظرياتها وشعاراتها؛ في مقابل ازدهار سوق التنمية وتوافر سُبل الحياة الرافهة الكريمة، واحترام البلد وتوثّق أواصر الارتباط به من خلال ما يقدّمه من مكاسب على الأرض، وليس لشعاراتٍ تعِدُ بالرفاه، لكن من بعد معارك المصير الكبرى، والقضاء على الإمبريالية والاستعمار والاستكبار والصهيونية وتحرير فلسطين وتشييد الوحدة، دون أن تنسى المؤامرات الداخلية التي يتناسل بعضها عن بعض دون نهاية!
من خلال المتابعة والمطالعة والمعايشة أعتقد أن بناء الوطنية بالتنمية، وليس بضجيج الشعارات والوعود والأيديولوجيات، هو ما حصل في أمثلة قريبة وبعيدة، مثل ماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية، وتالياً تركيا وإيران على عهد رفسنجاني وخاتمي، والآن المغرب وإندونيسيا وفيتنام وغيرها كثير من البلدان.
كلّ هذا وغيره كان واضحاً بالنسبة لي، إلا المصطلح الذي صاغه الداعية التنويري الصديق مهند الساعدي، ونحته عقله الإبداعي، بعنوان: «الوطنية التنموية».
الوطنية التنموية هي الوصفة التي أراها صالحة لبلدنا الآن، لأنها الأقلّ كلفة من غيرها، وهي تجمع ولا تفرّق، تستقطب الجميع ولا تقصي أحداً، لأنها بحاجة إلى كلّ الجهود، والأهمّ أنها وصفة بآثار سريعة وفعّالة، ما إن تبدأ على أرض الواقع حتى تنسينا معارك القعقاع، ومعلقات الفخر الفارغ، وثرثرات المنظّرين، من دون استخفاف بالفكر السليم قط!