شوقي عبد الأمير: نحن أنداد في الإبداع
البصرة: صفاء ذياب
"سيدي لي الشرف والسرور الكبير جداً أن أعلنَ لكم أنَّني قمت الآن بمنحكم في إطار تكريم الشتاء لعام 2023 مرتبة الفارس في الفنون والآداب وهي واحدة من الامتيازات الرئيسة الموجودة بين الامتيازات الأربعة في الجمهورية الفرنسية. عبر هذه التكريم الذي هدف إلى مكافأة الشخصيات التي تميّزت بإبداعها في ميادين الثقافة وبدعمها ونشرها للمعارف والمؤلفات التي تشكل ثروة في موروثنا الثقافي، تريد بلادنا أن تحيي عالياً مساهمتكم في إغناء ونشر الفنون والآداب في فرنسا والعالم.
أتقدّم لكم بتهانيّ الصادقة وأنا سعيدة بشكل خاص أنْ أسجّل بهذا التكريم التزامكم في خدمة الثقافة العزيزة على قلوب كل الفرنسيين.
تفضلوا سيدي بقبول تحياتي المتميزة.
ريما عبد الملك".
بهذه الرسالة التي صدرت عن وزارة الثقافة الفرنسية، أعلن خلال الأسبوع الماضي اختيار الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير شخصية العام 2023 الثقافية في فرنسا، وهو من أرفع الأوسمة التي تسلّمها مثقف عربي خلال العقود الماضية.
وفي حديثٍ خاصٍ مع قناة الجزيرة، تحدّث الشاعر شوقي عبد الأمير عن هذا الوسام، مبيناً أنّه تتويج لمسيرة ربطت الشرق بالغرب، أنا منذ أربعين عاماً في هذا الجسر الذي يمضي باتجاهين، بين الثقافة العربية والثقافة الفرنسية، بحثاً وترجمةً وشعراً، هذا اعترافٌ جميلٌ وكبيرٌ ليس لي شخصياً، بل لأهمية هذا التبادل الثقافي، هذه التفاتة عبر شخصي، لكنَّها تقول للمهتمين في هذا الوسط إنها الساعة، يجب أنْ نعمل في الثقافة.
وفي جوابه عن هذا الجسر وكيفية العمل عليه، أفاد عبد الأمير بأنَّ الشرق والغرب يتواصل شئنا أم أبينا بكل أنواع الجسور السياسية والاقتصادية والثقافية والحربية، لكنَّ هناك جسراً عميقاً لا يُرى دائماً ولا يحتل الساحات، وهو جسر الثقافة والإبداع، نحن مستهلكون في الميادين الأخرى كلّها، إلَّا في الإبداع، نحن أندادٌ في الإبداع، نملك الشعر كما يملكون الشعر، نملك الرواية كما يملكون الرواية، نملك الفكر والفنون والسينما والموسيقى، في كلَّ ميادين الإبداع نستطيع أنْ نكون أنداداً للغرب، لكنَّنا في الميادين الأخرى مستهلكون فقط، أي ندفع ونصمت.
يجب أنْ ننتبه إلى هذا الفارق، وأنّ صورة العربي اليوم في أوروبا بحاجة إلى عمل ثقافي عميق، لسنا بحاجة إلى عملٍ دبلوماسي أو سياسي أو تجاري، كلها مهمة، لكنَّ الأهم منها هو الدور الثقافي.
الناجي من الحروب
شوقي عبد الأمير الذي خرج من العراق في بداية سبعينيات القرن الماضي، لم يدر في خلده أنه سيكون مندوباً دائماً للعراق في منظّمة اليونسكو، ولم تكن هناك سوى الصدفة التي قادته ليعمل في السفارة اليمنيَّة في باريس كمستشارٍ إعلامي، ومؤسسٍ للمركز الثقافي اليمني.
إلَّا أنه كان يعرف جيّداً ماذا يريد من الشعر، فأصدر أكثر من 20 مجموعة شعريَّة على مدى 45 عاماً ابتداءً من "حديث لمغني الجزيرة العربية" 1976، "أجنة وسراويل صحراوية" 1978، "خُيـــــــلاء" 2005، "محاولة فاشلة للاعتداء على الموت" 2009، وغيرها من المجموعات الشعريَّة.
لكنَّ المشروع الأهم في حياة عبد الأمير، على حدِّ قوله، هو إشرافه على (كتاب في جريدة) الذي استمر لـ16 عاماً.
عبد الأمير المولود في الناصرية في العام 1949، تنقّل بين أمكنة عديدة، وفي حديثٍ خاصٍّ لصحيفتنا بعد عودته من باريس في العام 2013، تحدّث معنا حول تنقّلاته بين هذه الأمكنة من خلال اللغة، مبيناً أنَّ الأمكنة التي يغادرها لا يهجرها، تبقي فيه وتسكنه.
الناصرية، أور، سوق الشيوخ، لم يسكنها، لكنّها تسكنه. وفي باريس يكتب بحبر هذه الأمكنة أحياناً. هذه الأمكنة بالنسبة له عبارة عن مختبرات للنص، ينابيع تتفق عبرها الصور واللغة، وهو يمسك بها كمن يمسك بعوّامة، ربَّما بدون هذه الأمكنة سيضيع- على حدِّ قوله-، إنَّها كأعمدة في صرح، يحتمي بها.
"المكان بالنسبة لي شيء مطلق، أقول الناصرية كما أقول باريس أو اليمن أو بيروت، بمعنى أنَّ علاقتي بها علاقة مجرّدة، شعرية بحتة، مفردة في نصّي، أحملها معي دائماً وإنْ لم أسكنها. قلت في كتابي (إضاءات) إنَّ بمكتبي في بيروت أربعة أقدام، كلّ قدم في بحر، قدم في البحر الأبيض المتوسط وقدم في المحيط الهندي وقدم في هور الحمّار وقدم في الأطلسي، لأنَّ هناك مكاناً أملكه في كلِّ هذه البحار والمحيطات، وأشعر بكل هذه الأمكنة أقداماً في مكتبي أو باحة في داري. اللغة تساعدني في تطويع هذه الفيزياء والجغرافيا وهذه التضاريس، وهي من تجعلني ألعب بهذه الأمكنة كطفلٍ يعلب بكرة أو دمية".
الشاعر الدبلوماسي
العلاقة بين الشعر والدبلوماسيَّة لدى شوقي عبد الأمير علاقة نسقيَّة، فالجمع بينهما كمن يجمع بين عالمين متجانسين، وفي حديثٍ مع طه العاني يرى عبد الأمير عدم وجود تناقضٍ بين المجالين، وإنما هناك نسقٌ متصلٌ بينهما، وكلاهما يعتمد اللغة ويحتاج إلى حساسيَّة وثقافة وقدرة على اختزال وتوصيل ونقل الأحاسيس والمعرفة.
ويوضّح بأنَّ الدبلوماسي والشاعر يدوران في المساحة عينها، وليس غريباً أنْ تجد كبار الشعراء في العالم أيضاً كانوا دبلوماسيين، فالدبلوماسية والشعر ينبعان من المصدر ذاته ولا يؤثر أحدهما في الآخر.
ويروي في حديثه مع العاني كيف اكتشف علاقته بالشعر في وقتٍ مبكر، وبمفارقة غريبة كان الشاعر العراقي المعروف مظفر النواب مدرس الرسم في مدرسة عبد الأمير، وبدلاً من واجب الرسم قام عبد الأمير بكتابة بعض النصوص فأعُجِبَ بها النواب وشجّعه على الاستمرار، وكان ذلك مصدر فخرٍ له وهو بعمر 12 عاماً.
وإذا كانت الدبلوماسية تعني الاغتراب عن الوطن بشكلٍ أو بآخر، لكن عبد الأمير يعيد تعريف الغربة بأشكالٍ أخرى، فالغربة بالنسبة له ليست حالة العذابات والحنين المفرط، والمجاعة العاطفيَّة للوطن. كلا، "لم أشعر بهذه المجاعة للوطن، أعتقد أنَّ الإنسان وارثُ الأرض، والأوطان عبارة عن حدودٍ وتضاريس سياسيَّة ولغويَّة، يعبرها الإنسان لكي يكبر، لكي تكتمل إنسانيته. فأنا أعبرُ تضاريس اللغات والجغرافيا والسياسة لكي أصنع قصيدتي وإنسانيتي، بهذا المعنى أعتقد أنَّ مفهوم الغربة مفهومٌ متضائل، مفهومٌ عائلي، الإنسان يحتاج عائلته وأهله، ويحتاج لعائلته الأكبر "الوطن"، ويحتاج للغة التي تربى وتغنى فيها متمثلة بلغته الأم، لكنْ كل هذه لا تكفي لإنسانيَّة الإنسان".
وممّا يؤكّد عليه عبد الأمير أنَّ أوّل جملة في ملحمة كلكامش "هو الذي رأى كل شيء"، ولم يقل هو الذي رأى قريته أو أرضه أو وطنه، فهو وضع الإنسان أمام كل شيء. هذا الأمر "أعدّه أساسياً بالنسبة لي، وأضيف أنَّ مفهوم الاغتراب الحقيقي ليس مكانياً، ليس الخروج عن الأرض أو الابتعاد عن اللغة، بل هو الزمن. أنْ أعدَّ نفسي مغترباً حينما يكون لي جسدٌ ولا يكون لي حاضرٌ، أحمل جسدي ووجودي وكياني، أتأمّل فيه ما حصل فيه بالماضي، وماذا عملت من خلاله، أو أنتظره فيه ما سيأتيني مستقبلاً. أما الحاضر فملغى ومصادر، وبهذا المعنى يمكن لشعوبٍ كاملة تعيش فوق أرضها وتكون مغتربة حينما يصادر حاضرها، فهذه هي الغربة الحقيقيَّة، وليست الغربة أنَّني تركت الناصرية وتجوّلت في العالم، بل هذا اتساعٌ وانفتاحٌ للآفاق، وانتصارٌ على المكان، وفتحٌ لأبواب الوطن لمساحاتٍ وآفاقٍ إنسانيَّة وكونيَّة. أحببت بلدي أكثر حينما رأيت البلدان الأخرى، أحببت لغتي أكثر حينما تعلمت اللغات الأخرى، وعشقت نسائي اللاتي أحببتهنَّ في العراق أكثر حينما تعرفت على الأخريات".
وعلى الرغم من حياة عبد الأمير الطويلة في باريس، غير أنّه كان يرفض أنْ يكتب شعراً باللغة الفرنسيَّة، بل ترجم نصوص شعراءٍ آخرين إلى اللغة الفرنسيَّة، وترجم شعراً فرنسياً إلى العربيَّة، إلا أنّه لم يكتب نصوصه الشعريَّة إلا بالعربيَّة، وهذا نابعٌ من يقينه أنَّ الشعر لا يكتب بلغة المعرفة، و"أنا تعلمت اللغة الفرنسية بعمر 25 سنة. لم أتعلّمها بلغة الذاكرة والنسيان. الشعر يكتب بحبر النسيان، والمعرفة تكتب بالجدل والمنطق والفلسفة، فتكتب بلغة معرفيَّة. الشاعر إذ يكتب لينسى. فأنا نسياني بالدرجة الأولى".
وماذا بعد..؟
ربّما كل ما قاله شوقي عبد الأمير، والوسام الذي حصل عليه مؤخراً هو تتويجٌ لمسيرة حياته الطويلة، فهو ابن الكتابة الأولى، وعلى الرغم من أنَّ العام 1949 كان عام صرخته الأولى، غير أنَّ الشعريَّة بدأت مبكراً جداً، منذ بداية الستينيات، حتى حصل على الماجستير في الأدب المقارن من جامعة السوربون في باريس العام 1974. ليعمل بعد ذلك مدرّساً بالجزائر، ثمَّ انتقل إلى العمل الصحافي والثقافي، فعيّن سكرتير تحرير لمجلّة العالم العربيّ في الصحافة الفرنسيّة، وعمل مستشاراً صحافيّاً في سفارة اليمن الديمقراطية (اليمن الجنوبي سابقاً) في باريس، وعمل منذ 1991 مديراً للمركز الثقافيّ اليمنيّ في باريس، لينتقل بعد ذلك إلى مجال العلاقات الدولية لمنظمة اليونسكو، فأصبح خبيراً في العلاقات الثقافيَّة الدوليَّة بالمنظمة طوال 10 سنوات، ومن ثمَّ المستشار الثقافيّ العراقيّ في منظمة UNC، أسّس مشروع (كتاب في جريدة) وهو أكبر مشروع ثقافيّ عربيّ تمّ تحت رعاية منظمة اليونسكو. ليعود بعد ذلك إلى بغداد ليعيّن مستشاراً في جريدة الصباح العراقيَّة، ومن ثمَّ رئيساً لتحريرها، حتى أسس مجلة (بين نهرين) وعمل رئيساً لتحريرها قبل توقفها، ليعود إلى باريس مجدداً، غير أنّها لم تكن عودة الغربة كما السابق، بل عودة ليحصل على وسام وزارة الثقافة الفرنسيَّة كشخصيَّة ثقافيَّة للعام 2023.