الحداثة مشروع لم ينتهِ بعد
عبد الغفار العطوي
في 11 أيلول/ سبتمبر عام 1980 كان يورغن هابرماس على موعد مع خطابه الذي ألقاه في باولسكيرش بمناسبة تسلم جائزة ادورنو التي تمنحها مدينة فرانكفورت، ذلك الخطاب الذي أحيا به الأمل في نفوسنا نحن الذين نعيش خارج حداثة العالم الغربي ونتطلع نحو حجز مقاعد لنا للحاق بها معتمدين على فكرة فهم الحداثة من كونها سوالا: ما الحداثة؟ (الحداثة: بيترتشايلدز) لأنه بات ضرورياً، قبل أن تلتفت نحو ما بعده، أن ننظر إلى ما أنجزناه من التفكير حول ماهية الحداثة! بسبب أننا عشنا مخاض ذاك السؤال قرابة قرن.
أي في أن تكون الحداثة (الغربية) ما زالت مشروعاً لم يكتمل، بعد، كان الخطاب (خطاب هابرماس) يشير إلى نقطة مهمة في معترك الفكر الحداثي الغربي مفادها أن مشروع الحداثة من منظور بعض فلاسفة ومفكري الغرب الحداثيين هو يقيناً لم يكتمل، وإن ما يحصل من تحولات برؤية هابرماس وانتوني جيدنز.
وفي تعقيب المنظرين الاجتماعيين الماركسيين ديفيد هارفي وفردريك جيمسون على ما قام من عداء ما بعد الحداثة للأشكال البنائية والغائية الكبرى للتحليل الاجتماعي بما فيها الماركسية، هو تخط لبعض اخفاقات الحداثة المتأخرة، يقول هابرماس.
إن الحداثة التي تركت المكان لتاريخانية جديدة هي ان الحداثة بأكملها قد تغذت من المناظرة مع الماضي بعد أن رُفِعَ شعار حضور الماضي، إن الاختلاف بين مؤيدي الابقاء على الحداثة وإنكار ما بعدها على أنه حقبة لم توفق في إعطاء الحداثة ضبطاً علمياً وعقلياً ومنهجياً، وبين دعاة ما بعد الحداثة قد جعلنا متفائلين في قراءة الجانب المريح، لهذا الاختلاف الذي سينتهي من دون شك لتعزيز الحداثة، ومن ثم سنستفيد بدورنا منه إذاً في الدخول لعالم الحداثة بخطوات واثقة، وإن كان الهجوم الظاهر من قبل فكر ما بعد الحداثيين ضد الحداثة يكلف الفكر الحداثي كثيراً بالتركيز على نقد الحداثة التنويرية بالذات لصالح ما يسمى مجال نظريات ما بعد التنوير وما بعد الحداثة وما بعد التاريخ إلخ، أي عن نزعة محافظة جديدة، مما يتضح أن الجدال بين من يؤمن بمشروع حداثة لم تنته، وبين من أقر بضرورة الذهاب نحو مرحلة لما بعد الحداثة صبغٍ الفكر الإنساني بألوان شاحبة بدت في العروض التي قدمها هابرماس في معالجته لأهم انتقاداته لما بعد الحداثة.
كما وينتقد ما بعد الحداثيين لعدم وضوحهم في ما ينتقدونه، إن خلط منظري بعض العلوم الإنسانيّة، خاصة علم الاجتماع الأوراق في نقدهم لما اوصلت نهايات الحداثة في الغرب الرأسمالي العالم إلى أزمة خانقة، كان سببها الرئيس التحولات المعرفيَّة السريعة التي اقتضت من هؤلاء المنظرين الذهاب إلى القطع بأن العقد الثمانيني من القرن العشرين هو الحد الفاصل بين نهاية مرحلة من الحداثة،ومجيء مرحلة تختلف في رؤيتها، لمفهوم الحداثة، وأطلقوا عليها جزافاً بـ (ما بعد الحداثة) وكان العنوان صادماً حقاً!، ما معنى: ما بعد الحداثة!؟، لكن منظري هذه المرحلة مثل بوديليار وفوكو وليوتار وغيرهم قد مضوا في إثبات ما أعلنوه من تحول فكري، اعتبروه تحولاً عميقاً ضد الحداثة، لكن هابرماس الذي ظهر أنه مؤيد قوي للحداثة، ومدافع عمّا يعتبره عناصرها التقدميَّة، مع أنه ينتقد سماتها المستبدة الهدَّامة، أبدى دعوته إلى مراجعة مشروع العقلانيَّة التنويريَّة، التي طالما ندد بها ما بعد الحداثيين بحجة أن ما طرأ من تحولات في مجرى العالم الحداثي، حول العلم والعقلانية وكل ما قدمته الحداثة سيخضعونه للنظرية والمنهج، لكن ما نلحظه بهذا الصدد أثار حفيظة مفكري مختلف التخصصات في العلوم الإنسانيّة وفق حملات النقد الواسعة، ليقف التيار المضاد لما بعد الحداثة بالمرصاد بالنقد السلبي لاطروحاتهم، وأعاد الثقة لدينا نحن المتأخرين عن ركب الحداثة، وأعاد التفاؤل لنا، من الذين هاجموا ما بعد الحداثة، مثل انتوني جيدنز. فقد استند نقده لمقولات ما بعد الحداثة على المبرر الدفاعي نفسه عن الحداثة الذي اتخذه هابرماس، بل جاهر بالحداثة الباقية على مدى طويل عبر تاريخها الحافل بالمكاسب والمنجزات، وإذا كان يرفض معظم، بل ربما كل مقولات ما بعد الحداثة، فإنَّ أهم ما يميز نقده رفضه لمفهوم ما بعد الحداثة كتعبير عن الحقبة التي نحياها في وقتنا الحالي، إضافة رفضه لموقف ما بعد الحداثة الرافض لتأسيس معرفة نظاميَّة، وهذا الموقف تقريباً ما نريده ونؤيّده، في تقصي فكرة الاقتداء المطلوب منا في الذهاب نحو الحداثة، لكن ما يطرحه جيدنز وكذلك ما قام به من إرساء للأسس المميزة للحداثة الراديكالية كرؤية بديلة لما بعد الحداثة، زادتنا غبطة في تلمس طريقنا لرسم معالمنا في حداثة نفهمها، وتلبي وعينا التاريخي والمعرفي، ولا تجعلنا نتعثر بواقعنا ما قبل الحداثوي المرتبك، فأولى خطواتنا نحو الحداثة أن نجد الدعم بمن يفكر أنَّ الهالة الفكريَّة التي رسمها منظرو ما بعد الحداثة هي ليست حقيقية مئة بالمئة، إنما هناك اختلاف مغاير نوعاً ما كما يصفها هارفي في كتابه (حالة ما بعد الحداثة عام 1989 الطبعة العربية المترجمة) بالرغم أن هارفي كان يرى كثيراً من المزايا في الفكر ما بعد الحداثي، إلّا أنّه يرى فيه الكثير من مواطن الضعف بالمنظور الماركسي، من جانب ثانٍ من موقفه السلبي الذي سجله على ما بعد حداثيين انتقاه لفوكو وليوتار من ناحية طرحهم لمقولات تقارب النظرية العامة، ففوكو قد تناول العلاقة بين القوة والمعرفة، أما ليوتار فقد
انتقده هارفي بما يتعلق بألعاب اللغة، كذلك قام هارفي بانتقاد فوكو وليوتار في قولهما إن المعرفة هي القوى الأساسية هذه الأيام، وهذا يعني في الإشارات التي روّجها ليوتار في كتاباته التي أصبحت تؤكد أن الحداثة قد تغيّرت، لأنَّ الظروف التكنولوجية، والاجتماعية قد تغيّرت، لذا قدم هارفي في
تحليله للمجتمع ما قبل الفوردية ومجتمع الفوردية قد طعن بما بعد الحداثة، وما أعطانا هارفي من فكرة أن الحداثة تستطيع البقاء ما دامت الرأسمالية ماضية في التراكم المعرفي المرن، ويعطي رأي المنظر الثقافي فريدريك جيمسون الحداثة أملاً إضافياً، بما يتمتع موقفه من النظرية ما بعد الحديثة من الموضوعية والاعتدال، حيث يجمع بين رفض ومعارضة بعض مقولات ما بعد الحداثة، وقبول البعض الآخر، مما يعني أن ا
لحداثة لم تفقد قوتها وقدرتها على التطور وإن كانت في مرحلتها المتأخرة، وإن حقبة ما بعد الحداثة التي طالما لوَّح بها فلاسفة غالوا في اندفاعهم نحو عالم من أوهام (تيري إيغلتون في كتابه أوهام ما بعد الحداثة)
أما نحن القابعين بين البين، لنقم بتطوير مفهومنا الحداثوي، ما دمنا نعيش في نصف الحداثة التقانية والنصف ما قبل الحداثي المكتظ بالإشكاليات الحضارية والمعرفية والاجتماعية والسياسية والدينية والتاريخية الخ.. أي أن نوقف عجلة ما بعد الحداثة
في وعينا وفي ثقافتنا واعتقاداتنا، فليس كل نظرة إلى الوراء كما حذر هابرماس في خطابه في 11 أيلول 1980
تعني تراجعاً لتاريخانية محافظة جديدة، لأننا نمتلك أفقاً حداثوياً لحداثة بدأت منذ عام 1850 تمارس ثقافة التحولات في الغرب، ويمكنها أن لا تقف مطلقاً.