حمزة مصطفى
نجح الفاسدون وبامتياز في تحويل الفساد من مجرد رشاوى، وبيع ذمم وضمائر إلى سلوك وثقافة وشطارة وجسارة بلا حدود ولا قيود. وفي مقابل نجاحهم هم فشلنا نحن حكومات ونخبا ومجتمعا وجمعيات وهيئات ولجانا ومجالس مكافحات فسادات. لماذا نجحوا؟ ولماذا فشلنا؟ هم نجحوا بلاشك لأننا فشلنا بلا شك بماذا؟ في عملية تأسيس دولة. أقصد بالدولة تلك الدولة المتعالية على الأعراق والأديان والمذاهب والأحزاب والمكونات والشخصيات وتيجان الرؤوس، التي تكاثرت بحيث باتت أقرب إلى مزرعة البصل على "كولة" الشاعر علي الشرقي. (قومي كلهم رؤوس.. أرأيت مزرعة البصل؟). ولأننا فشلنا في الفصل بين الدولة والجهاز التنفيذي، وذلك بعدم زجها في كل صغيرة وكبيرة من الصراعات المكوناتية والعرقية والطائفية والحزبية، فقد اختلطت بالحكومة التي "تجي وتروح"، وفي جعبتها العديد من الخطط والبرامج والطموحات والمناهج، التي سرعان ما تجد نفسها، وقد واجهت شلل الفاسدين بدءا من حيتانهم حتى فيرانهم.
هذه مشكلة تواجه كل رئيس وزراء طالما أن التداخل قائم بين الدولة والحكومة وأجهزة أخرى قضائية وتشريعية. ما تنفرد به الحكومة الحالية أن هناك ائتلافا يقف خلفها اسمه "إئتلاف إدارة الدولة". لكن هل كل أطراف هذا الإئتلاف متوافقة على دعم الحكومة من منطلق أنها تريد أن تؤسس لمنهج دولة؟ الجواب بكل صراحة لا. هل ينجح رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في "تحييد" القوى والأطراف، التي تعمل على مسك عصا الدولة والحكومة من الوسط معا ؟ بلا شك إنه يحاول. ومحاولاته جادة حتى الآن، لكن الحاجة لا تزال قائمة نحو ردم الفجوة بين الناس والطبقة السياسية. أي زرع الثقة، التي إهتزت كثيرا طوال السنوات الماضية. كان رئيس الوزراء الأسبق الدكتور حيدر العبادي تمكن من تحويل مفردة هي "البعض" إلى مصطلح. حين تنطق "البعض" تختزل الكثير من القوى والأحزاب والشخصيات والزعامات. كيف تمكن العبادي من نحت مصطلح عام، شامل، قاطع، مانع، شالع، قالع من مفردة واحدة فقط، بحيث لا أحد عملها قبله من أرسطو إلى حسين سعدون؟ لأن تجيب عن الأسئلة وتعفي من المساءلة. من هم الفاسدون.. البعض؟ ومن هو البعض؟ البعض. لا يوجد سوى البعض. كلنا صرنا نقول البعض حين لا نريد الكشف عن الأسماء المكشوفة المعروفة حتى سابع جد. ولأننا اعتدنا أن لا نقول للسبع "حلكك جايف"، فإن البعض تجمع الأسد والنمر والفيل والدجاجة والفارة وأبو الحصين وأم العيون السود "ماجوزن أنا".
على مدى السنوات الماضية صارت مفردة "البعض" أيقونتنا في محاربة الفساد البعضاوي. لماذا؟ لأن التشخيص ممنوع.والدولة التي هي كيان متعال جبار، مارد وعنيف وبيروقراطي محترم نقف له إجلالا، عبر علمه الوطني وسلامة الوطني وسلاحه الوطني في الدرك الأسفل من إهتماماتنا.
فلقد جعلنا الدولة جزءا من صراعات النفوذ على مدير تقاعد، ومدير هيئة، ومسؤول تنظيف شوارع وفارش سبيس أزقة، ووكيل حصة تموينية، ومختار محلة ومؤذن جامع. حينما تحولت الدولة بكامل عليائها إلى مجرد مفهوم مائع صائع ضائع، وجدت الحكومات إنها ليست جزءا من دولة تحميها، بل هي مجرد دائرة ملحقة بالكيان الموازي للدولة، وهي المكونات والأعراق والأقوام والأديان والمذاهب والعشائر والقبائل والحمائل والأحزاب والشخصيات. هل من حل؟
الجواب عند.. البعض.