سيكولوجيّة الاحتجاج.. فرنسا أنموذجاً

آراء 2023/07/10
...

  ابراهيم العبادي
اهتزت فرنسا لأيام على وقع احتجاجات عنيفة، قام بها شبان فرنسيون بعد مقتل شاب من أصول جزائرية على يد ضابط شرطة، الحادثة أعادت التذكير بالعنصرية المؤسساتية، التي تضرب في عمق جهاز الشرطة الفرنسية.

بعدها بساعات تدحرجت كرة أعنف أعمى، شملت أغلب البلديات والمدن الفرنسية دونما استثاء، بما فيها قلب باريس الراقي، ولم تتوقف أعمال العنف، إلا بعد أيام وليال من التدابير الشاقة والمناشدات، وإعلان حالة الطوارئ، وإنزال عشرات الآلاف من أفراد الامن، أسبوع واحد من العنف الاحتجاجي أحال ايام فرنسا ولياليها إلى جحيم من الحرائق والسلب والنهب والتدمير وخسائر بمئات الملايين، وإحراج كبير للجمهورية في صميم مبادئها وشعاراتها، انطلقت موجة من القراءات عن اسباب انعدام التماسك المجتمعي بين أجيال فرنسا ومواطنيها البيض والملونين من ذوي الأصول المهاجرة، وكالعادة فقد توجهت وسائل الاعلام إلى علماء الاجتماع قبل السياسيين، لأن آراء الآخيرين معروفة، ولن يأتوا بجديد، سواء من كان منهم من اقصى اليمين إلى اقصى
اليسار.
اليمين المتطرف عبر عن مخاوفه المعروفة على هوية فرنسا ولم يخف عدائه للفرنسيين من اصول مهاجرة لكنه يخفي راسه عندما يتعلق الامر بالسؤال : مالعمل مع ملايين الشباب من مدن الاحياء والضواحي الذي لايعرفون غير فرنسا وطنا غير انهم يشعرون بالحرمان النسبي وسوء المعاملة ورداءة الخدمات المقدمة في مناطقهم وتزايد الفجوة بينهم وبين الفرنسيين من الطبقات الاخرى ؟
القراءة النهائية تلخص الازمة بجملة واحدة، لقد اخفقت فرنسا في دمج مواطنيها ثقافيا ونفسيا وفشلت في ازالة الحواجز والمشاعر الناقمة ضد التمييز والاقصاء وغياب العدالة في احياء الضواحي، التي تنتشر فيها البطالة والفقر النسبي ويسود الغضب المكبوت ضد السياسات العامة.
مقتل شاب بسبب عنصرية ضابط شرطة اطلق كل هذا الغضب العنيف مذكرا ساسة فرنسا واحزابها ومثقفيها بان ثمة كيان يتداعى، وان الامور لاتسير على مايرام، فثمة اجيال تستبطن روح الاحتجاج وتطالب بالمساواة والعدالة الاجتماعية وتعلن فشل جميع السياسات التي راهنت على احتواء خطوط التمايز بين الفرنسيين.
منذ محاولة الرئيس جاك شيراك السيطرة على احتجاجات عام 2005 المشابهة، والتي اعلنت يومها فشل سياسات الاندماج السابقة التي عملت عليها حكومات فرنسا منذ عام 1970 يوم اعترف أحد الوزراء بما سماه الاستبعاد الاجتماعي، الذي يسود في مناطق كثيرة وبسببه تتعمق مشاعر الفصل والانفصال الناتج من الاهمال والعنصرية وتشدد قوى اليمين واليمين القومي المتطرف في سياسات الهوية ضد الهجرة والمهاجرين.
ما الذي تكشفه أحداث فرنسا التي كان شعارها (لا عدالة، لا سلام ) على الأصعدة السياسة والثقافية؟ وما وجه الاختلاف والشبه بينها وبين مثيلاتها في العالم.
حادثة مقتل الشاب الجزائري نائل المرزوقي، التي اطلقت كل هذا العنف المدمر، ذكرت بحادثة مقتل الشابة الايرانية مهسا اميني العام الماضي،  
 والتي فجرت احتجاجات ضخمة امتدت لشهور وحملت شعار (المرأة، الحياة، الحرية)، وكشفت هي الاخرى عن الشروخ العميقة في البنية السياسية والمجتمعية، حيث تتغذى مشاعر الاحباط والغضب المكبوت على أخطاء مؤسساتية وسياسات اقتصادية وثقافية لا تحظى برضا عمومي، فتنفجر في أول فرصة تثير مشاعر الرأي العام.
قبل أحداث ايران كانت حوادث مقتل مواطنين أمريكيين على يد أفراد من الشرطة الامريكية - كما في حادثة مقتل جورج فلويد وغيره عام 2020.
تفضح السلوك الغليظ، الذي تكون دوافعه عنصرية مؤسساتية لدى رجال الشرطة، وكانت هذه الممارسات فرصة للجمهور ليعبر عن مشاعر الغضب ضد المؤسسة الأمريكية، منددة بالممارسات التمييزية ضد السود والملونين الأمريكيين في التظاهرات والاحتجاجات، التي حملت شعار (حياة السود مهمة).
تتماثل الاحتجاجات في انطلاقتها واستدامتها والرسائل التي تحملها، في الأمثلة الثلاثة التي ذكرتها، ثمة قناعات لدى المحتجين، بصرف النظر عن مشروعيتها ومعقوليتها وصوابيتها -تشير إلى سيكولوجية واحدة، هناك ظلم يقع على فئات أو أفراد، يستدعي رد فعل يخرج عن حدود السلمية ويخرج عن السيطرة بسرعة كبيرة، التلازم بين الاحتجاج على ظلم في واقعة محددة (حادثة قتل)، والتعبير عن الرفض العارم للسياسات، يشي بأن الحاجة إلى التعبير عن الغضب واللجوء إلى العنف المنفلت احيانا، يعكس تراكما مخزونا من الانفعالات الناجمة من الشعور بالتهميش والاقصاء وعدم الرضا عن السياسات والسلوك المؤسساتي، لقد شعرت المؤسسات الحاكمة بالخطر والقلق، وارتبكت حساباتها وبان عليها الحرج السياسي، ففي حين تسعى لتسويق نموذجها عن التنمية المجتمعية والديمقراطية وحقوق الانسان والمساواة الثقافية، تنفجر اعتراضات عنيفة تسائل هذه السياسات، وتفضح معادلة الاستقرار الامني والسياسي، وتهشم الصورة الخارجية وتكشف عن عجز النخب
السياسية عن استيعاب المتغيرات الاجتماعية واحتواء النتوءات الثقافية المعبرة عنها، وفي أغلب حالات الاحتجاج يحاول كبار المسؤولين الاعتراف باصل المشكلة ويعدون بسياسات وحلول، لكن النتائج لا تأتي كما يتوقعون، إذ إن المشكلة أعمق من سياسات
استرضائية مؤقتة واجراءات محدودة، المشكلة في عمقها نفسية- اجتماعية، هوياتية- اقتصادية، الاحتجاج العنيف ليس سلوكا ثابتا لشخصية هدمية ومسارات فوضوية عدمية، بل هو يضع المشكلة في إطارها الأوسع، حيث جيل الشباب الذي يتشكل وعيه في فضاء تواصلي مفتوح وتتصنع إرادته على وقع المحاكاة والمماثلة واستلهام التجارب والتعلم اليومي في كيفية انتزاع الحقوق بالقوة والعنف، حينما يفشل السياسيون في الادارة والحوكمة الرشيدة، وتضعف قدراتهم عن ادراك ما يجري على الصعيد الاجتماعي والسياسي.