ثامر عباس
على الرغم من أن العلاقة ما بين الريف والمدينة هي من نوع العلاقات العضوية، التي لا تستلزم فقط وجود كلا الطرفين في سياق تاريخي واحد فحسب، وإنما تستدعي حصول تفاعل بيني وتواصل متبادل لضمان انتظام سيرورة التطور الحضاري، بالشكل الذي يحقق مصالح المجتمع الكلي (الحضري والريفي) على نحو متوازن ومتناغم. ولكن مع ذلك، تبقى ظاهرة (الأريفة) بمثابة لعنة تطارد المدن وتتربص بها الدوائر، كلما تهاونت هذه الأخيرة في الذود عن مكونات (حضريتها)، إزاء مظاهر (التأريف) المتوثبة للانقضاض عليها مع كل لحظة تغافل أو تكاسل. وهو الأمر الذي دللت عليه العديد من تجارب المدن والحواضر في بلدان العالم الثالث، التي وجدت نفسها في أتون انعطافات تاريخية حادة، واختلالات بنيوية
مزعزعة.
وإذا ما وضعنا باعتبارنا تجارب المدن العراقية بصورة عامة ومدينة بغداد بشكل خاص بشأن نصيبها من عمليات (الأريفة) التي تعرضت لها، سنلاحظ أن كل ما وقع من أزمات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ضمن نطاق الجغرافيا العراقية، كانت مدينة بغداد – ولا تزال – هي المستهدف الأول والمتضرر الأكبر لجهة تآكل مدماكها الحضري وتشوه معمارها المديني وتبدون محتواها السكاني. ليس فقط كونها القطب الأبرز في إطار قوى الجذب المادي والإغراء المظهري، التي تتمتع بها نظير مدن العراق الأخرى، لا سيما في مجال توفر الخدمات الإدارية والبلدية والصحية، فضلا عن تكاثر الفرص الاقتصادية والوظيفية والتعليمية فحسب، وإنما نتيجة لطابع عمرانها التاريخي المتقادم والسريع التأثر بالحراك العمراني (العشوائي) المنفلت، جراء طبيعته الهشة بنيويا والحساسة حضاريا، إذا ما قورن بنظيره العمران الحداثي، الذي يمتاز بالمتانة والصلابة، فضلا عن قدرته على التكيف مع المتغيرات والتطورات في طرز العمارة والاستجابة لأنماطها المدينية.
ولعل من أخطر مظاهر (الأريفة)، التي يمكن أن تواجهها المدن التاريخية – وبغداد مدينة تاريخية بامتياز – إزاء موجات (الهجرة) الريفية والقروية، التي لم تفتأ تستهدفها بشكل يكاد يكون يوميا، خصوصا خلال العقدين الماضيين اللذين شهدا عمليات نزوح هائلة لم تتعرض لها هذه المدينة المستباحة منذ خمسينيات القرن الماضي، وذلك لأسباب عديدة لا يسع المجال هنا ذكرها والتطرق إليها. نقول إن من أخطر مظاهر تلك (الأريفة)، كونها لا تقتصر فقط على مفاقمة الكثافات السكانية الخانقة، ومضاعفة ما ينجم عنها من مشكلات مجالية واجتماعية ونفسية وصحية ليس من السهل ضبطها والسيطرة عليها فحسب، وإنما – وهي الأهم بنظرنا – إحداث تغييرات جوهرية وتحولات عميقة داخل بنى الوعي الجمعي ومنظومات القيم الأخلاقية لدى الساكنة، والتي من شأنها زيادة معدلات التآكل والاندثار في أساسات المدماك الحضري للمدينة، بعد أن تكون كفة العوامل المسؤولة عن مظاهر (الأريفة) و(البدونة)، قد تغلبت وتفوقت على ضدها النوعي العوامل الداعمة لمظاهر (التمدن) و(التحضرن)، التي طالما كانت تعاني الضعف والهزال.
والجدير بالذكر أن الاهتمام بمدينة (بغداد) التاريخية وغيرها من مدن العراق الأخرى؛ لجهة الحفاظ المستديم على أنماط عمرانها المديني والرعاية المستمرة لطابعها الحضري، قلما شكلت هاجسا وطنيا وحضاريا لدى معظم الذين توافدوا على سدة الحكم في هذا البلد المستباح والمنتهك، لا سيما أن أغلب أصول هؤلاء (المتسلطين)، تشير إلى أنهم ترعرعوا في بيئات ريفية وقروية لا تزال تعيش في أطوار بداوتها الأولى، فضلا عن كونهم لم يفتؤوا يمتحون من نسغ قيم وأعراف أبت أن تفارق نوازعها القبلية والعشائرية. ولذلك قلما اكترثت رموز تلك الأنظمة السياسية (المتريفة)، بالمصائر التي آلت – وستؤول - إليها هذه المدن، جراء سيول (الهجرة) الريفية والقروية المتدفقة نحوها على مرّ العقود من جهة، مثلما لم تحفل بتسلل وتغلغل القيم والأعراف والعادات والرموز ذات الطابع (البدوي) و(القبلي) داخل أوساط المجاميع السكانية، التي سبق وإن اكتسبت الطابع (المديني) و(الحضري)، الأمر الذي لم تلبث آثاره السلبية تنعكس على تواضعات (الانتماء) للمكان/ المدينة و(الولاء) للجماعة/ المجتمع.
وبقدر ما تتمكن المجاميع الريفية والقروية ذات الأصول (البدوية)، التي دفعت بها موجات (الهجرة) المستمرة لاستباحة المدن وانتهاك حضريتها من تغيير موازين القوى لصالحها، بقدر ما تشرع ظواهر (التأريف) المديني و(التبدون) الحضري بالظهور العلني والانتشار السافر بين جنباتها، على وقع (التآكل) التدريجي و(الاندثار) البطيء لمداميك عمارتها المدينية وعمرانها الحضري.