ميادة سفر
تشكل الهوية الثقافية لمجتمع ما جزءاً من مجموعة القيم والتصورات والأفكار التي يتميز بها عن غيره، بما فيها من خصوصية تاريخية وحضارية، وهي بذلك نتاج ما سمي الوعي الجمعي الذي عرفه عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركايم بأنه:
مجموعة المعتقدات والقيم والمشاعر الإنسانية بين أعضاء مجموعة من السكان، بما يشكله من أداة لتمكين التماسك الاجتماعي بين الأفراد، وعاملاً في تمتين الهوية بجميع تجلياتها الثقافية والفنية والاجتماعية وحتى السياسية والاقتصادية، لأفراد ينتمون لحيز جغرافي معين وبصرف النظر عن الانتماءات العرقية والدينية، على الرغم من الدور الذي لعبته تلك الانتماءات في تشكيل الوعي الجمعي في كثير من الأحيان، وأدت إلى تجاوزات كبيرة بما يخص الهوية الجماعية، وعمدت إلى إقصاء البعض ورفض آخرين لا ينتمون إليها.
تترك مجموعة من العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أثرها في هوية الأفراد الثقافية، بما يمكن أن نسميه الثقافة الجمعية التي تميز كما أشرنا مجموعة عن أخرى ومجتمع عن آخر، ولا يمكن بأي حال وجود أي شكل من أشكال التطابق فيما بينها، لأن لكل جماعة أسسها التي بنت عليها موروثها الثقافي المتراكم وظروفها التي شكلتها، فلكل مجتمع قيمه وعاداته الاجتماعية وأفكاره، التي ينقلها من جيل إلى آخر، الأمر الذي يجعل أية محاولة للخروج عليها أو تغييرها فاشلة، إن لم تجابه بسيل من الرفض والاستنكار وأحياناً النبذ.
يعتقد البعض أنّ ميزة الهوية الثقافية لمجتمع ما هو الثبات والديمومة والاستمرار، وهي حالة صحيحة وصحية إن نحن اعتبرنا الهوية الثقافية مجموعة القيم الجمالية والأخلاقية واللغوية وأيضاً الأنماط الاجتماعية السائدة، فضلاً عن القيم التاريخية والحضارية المتوارثة، والتي تشكل هوية للمجتمع ككل وللفرد بشكل مستقل، إلا أنّ ذلك لا يبرر ما يقوم به البعض بقصد الحفاظ على تلك الهوية بأعمال متشددة، رافضة للآخر ولأي تأثير أو تلاقح مع ثقافات أخرى تحتمه طبيعة الأشياء ومسار الزمن وتطوره، مما يؤدي إلى قوقعة تلك المجتمعات
وانغلاقها.
هذا ما يميز الهوية الثقافية التي يراد لها الثبات والسكون، وبين الثقافة بشكل عامة كمفردة متحررة من كل القيود الاجتماعية والسياسية، والإيحاءات العرقية والدينية، التي تحاول تقييدها وتكبيلها، بما هي محاولة واجتهاد فردي يقوم به كل كائن بمفرده أثناء سعيه لاكتساب المعارف ومراكمتها والإضافة إليها وعليها، بما يشي بحالة الثقافة المتجددة والمتطورة والراغبة بالتغيير، لمواكبة كل جديد يطرأ على العلوم والفكر، والتي لا بدّ ستترك أثرها مع الوقت في تشكيل الهوية الثقافية للمجتمع، وبالتالي تغيير تلك الهوية وتطويرها بما يتلاءم مع المحيط الخارجي المتغير والمتبدل، ومع الحفاظ بطبيعة الحال على الموروث، الذي يحاكي مراحل حضارية تعاقبت على بلد ما، وليس الموروث المراد منه الانغلاق على الأسلاف ومواجهة التطور
بالرفض.
اعتبر الفيلسوف ديفيد هيوم: أنّ الهوية التي تنسب إلى العقل البشري ليست إلا وهما من الأوهام، وبما أنّ الحياة في حركة وتغير مستمرين، فلا يمكن الحديث عن هوية ثابتة، وهو ما يرجح صحته، لأن منطق الأمور والحياة يفرض ويفترض التغير والتبدل والتأثر والتأثير، بالتالي لا يمكن القول بثبات الهويات بقدر ما هو تجذرها وعمقها، الذي لا يجعل من أي تغيير يطرأ إلا إضافة تزيد من تماسكها ومرونتها في الوقت نفسه، فأية ثقافة لا تؤثر ولا تتأثر بأخرى سيحكم عليها بالزوال عاجلاً أم آجلا.