وجوه عماد عاشور.. ثريَّات كاشفة لنصوص الأرواح

ثقافة 2023/07/10
...

 كاظم جماسي

ظلَّ رسم البورتريه واحداً من أقدم الفنون عبر التاريخ، وقد حفلت سطوح الجدران في المعابد والهياكل وعديد الأبنية في المدن الرافدينيّة بعديد الوجوه للآلهة والملكات والملوك وغيرهم، كما رسم الفنان الفرعوني في مصر القديمة وجوه الموتى على توابيتهم من أجل أن تستدل عليهم (الكا/الروح) حين تلاقيهم في عوالم ما بعد الموت.
وراح فن البورتريه يشكل حقلا أساسيا من حقول التعبير في الفن الإنساني عبر العصور، كونه يلبي حاجة متجذرة لدى الروح اللائبة للتنفيس عن ما تختلج به، الأمر الذي جعل من الوجه مرآة بالغة الصفاء والوضوح لانعكاس ما تضطرم به دواخلنا من أفكار ورؤى، عواطف ومشاعر، احتدامات واصطراعات، خيبات ومسرات.. لتمسي علاقة الوجه بالروح علاقة جدليَّة، كما علاقة غلاف الكتاب "ثريا النص" بمتنه. الأمر الذي نلمسه بنحو مباشر وصادم عبر مهارة فرشاة/ سكين الفنان المبدع عماد عاشور ،اذ الوجه، في أعمال الفنان، ليس وجها بالمعنى المحدد للمفردة، أنه خارطة تدرّجت عليها فرشاته/ سكينه بمهارة لونيَّة لافتة، وقد افعمت، عبر تجاذبها أو تنافرها، لونيّاً ومقطعيّاً، بمزيج من اتحادات وافتراقات، اختصامات وتوافقات، محتدمة في الأحوال جميعها، وتكاد لفرط احتدامها تقفز عبر حدود الإطار نحو غاياتها الخاصة.
في وجه من وجوه الفنان البابلي المبدع عماد عاشور، ينداح الازرق على الصفحة اليمنى منه، كما لو كان صفحة بحر، أو، ويمكننا عده أيضا، ازرقاق لهيب نار متأججة، في زاويته العليا يظلم الأزرق ليدفن عينا منطفئة بالكامل، فيما تغط صفحة ذات الوجه اليسرى بسكينة لافتة من الأرجواني الشفيف، تسبل العين في أعلاه رموشها مطمئنة وداعة. لعل واحدة من أعسر سبل الاتصال وأعقدها، ليست قطعا الاتصال مع الآخر، فهذه تأتي بيسر لاحقا، بل ما بعد أن نحقق اتصالا مع الذات، معرفتها، معرفة وجهتها أزاء العالم ودفوعاتها، وأيضا معرفة جذور ما تحب، ما تسعد به، وجذور ما تكره، ما تحزن له ..
يطالعنا، في عمل آخر من أعمال الفنان، وجه قروية تعتمر عصابة رأس داكنة، أسفل طرفها الأيمن، تندفن فيه عينها اليمنى حتى لتبدو بئرا عميقة من دون قرار، ومسيل أحمر قانٍ ينحدر، من جرح لا يبين من تحت العصابة، هابطا جوارها، كما تتدلى "خزامة" بخرز زرق ثاقبة المنخر الأيمن للأنف، لتتماس مع رصعة، كما لو كانت أثرا لصفعة، على صفحة الخد اليمنى.
في النصف الأيسر من وجه القروية، محجر عين فارغة بالتمام، تحيط بها ظلال من التركواز القاتم، وينسدل جفنها الأسفل بخيوط طويلة من دمع منهمر، فيما الفم وسط الوجه بشفتين سوداوين يابستين، ربما بفعل عطش أو وجع ما، أسفلهما بالضبط على الحنك التاتو "الوشم" القروي المعروف بنقاطه الخمس.
 ما تخلص اليه العين الرائية في توكيد ما يسمى بفلسفة الفن "الوسط الذهبي" وهو التعبير الأمثل المتحقق في العمل الفني ما بين الشكل واللون، نجح الفنان عاشور في منحنا إيّاه عبر الرسائل البليغة التي بثتها أشكاله وألوانه عبر خرائط وجوهه جميعها، بنصفيها المعتم والمضيء، في الوقت عينه، وقد طفحت سطوحها بحميميَّة بينة ومكابدات شتى.