احترموا أمتكم أو فرصة لثقافة ضائعة

ثقافة 2023/07/10
...

 ياسين طه حافظ
كان عنوان كلامنا: احترموا أمتكم! ثم استدركت من شبهة الشوفينيَّة ولعنة  العنصريَّة وأين هذا من ادعاء الإنسانيَّة وقبلها الأمميَّة، فعدلت قليلا واضفت، هي فرصة لثقافة ضائعة، أي أكدت ما أريد الإشارة إليه والدعوة ضمناً الى استعادة ما ضاع او أهمل، لتحقيق دراسات واسعة وأفكار، ومن أجل نشر ثقافة عن عالم كان وأمة عاشت هي أمتنا.. ولكي نظل واقعيين وضمن ما يرتضيه أهل الحكمة، او التوازن العاطفي، نقول: الانتماء الى الأمة مجد شخصي ايضاً. وهو امتياز يمكن مما لا يتمكن منه مغترب او كان من أمة أخرى..
 وفي مسائل معينة المنتمي لأمته أقرب للمتخصص من سواه. لأنَّ إحساساً مشتركاً وروحاً وحميميَّة في الكلمة والحركة والمكتوب والمروي عن بيئته تتضح له أكثر كما يتضح له ما يقال عن مشاعر وأحداث ورغبات وظروف عيش كانت. العالم القريب مفهوم أكثر.. اذاً ثمة روح مشترك، ولا أقول دماً، فنعود الى اللعنات..
ما أثار هذا الموضوع ودعاني للكتابة فيه، شاهد أدبي صادفني وأنا أتصفح كتاب»الأنوار ومحاسن الأشعار» لابن الحسن علي بن محمد العدوي المعروف بالشمشاطي وبتحقيق الأستاذ صالح مهدي العزاوي.
تجاوزت ما قاله الشعراء العرب «في السيوف والرماح وجميع السلاح» وهو الباب الأول في الكتاب الى الباب الثاني الذي استهواني فما صبرت عليه. هذا الباب بعنوان «في أيام العرب وما في وقائعها من عجب».
إحدى الواقعات وجدت لها هوى في نفسي فاستوقفتني اكثر. ذلك لانها تتحدث عن موت صخر، أخي الخنساء، التي حفظت بعضاً من مراثيها لأخيها صخر وأكبرت شاعريتها يوماً وما أزال.
قلت لاتخذ من هذا اليوم منطلقاً لما أريد ولما ادعو اليه.. فلنذكر المثل اولاً لنكون على بيّنة مما يقال. هذا اليوم يدعى «يوم الأثل» وفيه قتل صخر بن عمرو بن الشريد. قتله ربيعة بن ثور الأسدي.
قال ابو عبيدة، برواية الشمشاطي، غزا صخر بن عمرو وانس بن عباس على بعض من بني سليم وبني خفاف، كلاهما من بني أسد، صخر على بني خفاف وانس على بني عوف، فاكتسحا أموال بني أسد وسبيا ومضيا..» فأتى بني أسد الصريخُ، فتبعوهم حتى لحقوهم بذات الأثل.
فاقتتلوا قتالاً شديداً وطعن ربيعة بن ثور الاسدي صخراً في جنبه، فادخل في جوفه حلقاً من الدرع فاندمل عليه ونتأت من الطعنة قطعة تدلّت واسترخت. فمرض لذلك وبقي شهوراً.
فسمع ذات يوم امرأة تسائل امرأته سليمى: كيف ترين صخراً؟ قالت: «لا حيٌّ فيُرجى ولا ميتٌ فيُنعى، لقينا منه الأمرّين..»
فقال صخر حين سمع مقالتها:
أرى أم صخرٍ لا تملُّ عيادتي
وملّت سُليمى مضجعي ومكاني
قبل أن استرسل أرى الابيات التي تلت البيت الاول، عدا ربما الثاني، مصنوعة غير اصيلة. واضح الاختلاف في مستوى الشعر ولغته والروح المتأجج في البيت الاول يخمد ويفقد جذوته في بقية الابيات.
لنترك هذه المسألة لغيرنا ولنواصل الحديث فيما عزمنا على التحدث فيه:
هذا الشاهد جزء صغير لا يُحسَب من كمّ كبير واسع ومتنوّع، وعلى صغره يفتح أعيننا على جملة أمور منها صعوبة العيش حدّ المسغبة والهلاك وشح الطبيعة وقساوتها مما يدفع الناس لأن تأكل حشفاً وجراداً ويرابيع ولأن يغزو بعضهم بعضاً، فهم يجب ان يعيشوا. والاكثرون في شظف. وفي ظرف يابس قاس كهذا تُضعِفُ الضرورات الصواب.
ثاني الأمور أي سلاح سيئ وصديء يستعمل الناس، يقتلون به ويُقتَلون؟
هذا باب آخر للتأمل والدرس.
وان تدخل بعض حلقات الدرع في لحم المطعون وتتدلى شريحة لحم، قطعة من بدنه، تُعلِّمنا كم هي عذابات الناس وما يتعرضون له واي عيش يعيشون، بل اي اصرار عظيم على مقاومة السوء واجواء الموت واليباب ليبقوا ويبقوا احياء فيها.
المسألة الأخرى، إنسانيَّة فرديَّة، ان الفارس الطعين، غائر الجرح، حلقات حديد داخل لحمه وشريحة، قطعة لحم تتدلى من بدنه، من موضع الطعنة، شهوراً لا تشفى ولا تزول. فأي حال للطعين الراقد واي عذاب وحيرة لمن يؤويه ويرعاه والى متى؟
نحن إذن بأزاء موضوع آخر لا عن الطب او الجراحة والعلاجات او الرعاية الصحيّة ولكن عنها كلها. وهو مدى واسع لدروس أخرى وبحوث، فضلاً عن شحّ البيئة وجوع البشر وما يؤديان اليه.
دروس كبيرة وبحوث ممكنة عن تلكم المجتمعات وكيف والى أي حد صعب وصل بهم العيش هناك. مهما كان المستوى، هي ثقافات وأحوال مطمورة يمكن ان تتكشف عن حقائق صعبة وعوالم.
ويمكن أن نكسب منها العديد من الدراسات والمؤلفات الغنية والمثيرة والمهمة. وما دمنا وصلنا الحد الأخير مما يمكن احتماله من عسر الحياة ويباسها، فلنتوقف لنرى كم عظيماً كان النبي محمد إذ جاء في الزمن الصعب وفي آخر نقاط التحمل والصبر، محمد العظيم أنقذ أمة من الاندثار!
وحين لا مفر، وبعد أن وصل السوء بالناس حد التوحّش والعوز وحدّ أن يئدوا بناتهم وان يغزو بعضهم بعضاً ويتقاتلون على لقمة العيش في اصقاع رمليّة تنبت موتاً لا عشباً.
يمكن ان تعترض عليَّ وتقول كيف تسوّغ غزو بلدان أخرى؟، أقول هم وُجِّهوا لخصب كي لا يموتوا ومعهم وصايا قاطعة بعدم الايذاء. فلا احد يرضى بأن يزاحمه احد، وليس من يرحب بأفواج جائعة.
ومعضلة مسدودة الطرفين كهذه، ليس لها الا حلٌّ هو ان تطعم الجائع وتمنعه من ان يؤدي، وفضلاً عن أنهم يحملون رسالة إلهيَّة فيها خير واضح لهم، ونحن نعرف ما كانوا فيه. ثم، نحن نتحدث عن تلك الازمنة ومنطقها..
هكذا، شاهد واحد أرانا موضوعات وعوالم. وحين قلت احترموا أمتكم فلأنّها أمة أصرت على الحياة وقاومت أسباب الموت قروناً لتبقى ولتخلف قصصاً صعبة وأخباراً تبعث على التأمل والتفكير وشعراً ساعة يكون منتبهاً يلتقط التماعات جمال نادر لا يُرى إلّا حين تكون الانسانية صافية والذكاء نافذاً يضيء...