عدوية الهلالي
داخل المؤسسة التعليميَّة (امبيلي)، تعتبر كلير معلمة جادة ولها قيمتها الكبيرة وتهتم بالطلاب الضعفاء بشكل خاص. وهكذا يجد الوافد الجديد الفتى جبرائيل ملاذه فيها، لكن والدة المراهق تتأثر بهذا التقارب وتقرر مديرة المؤسسة إرضائها بدلا من الدفاع عن معلمتها، وهكذا تبدأ آلة الشر الكارثيَّة بالدوران بلا هوادة. في رواية (بريئان) التي يتم فيها اتهام طفل وامرأة وانتهاك براءتهما، تسلط الكاتبة الفرنسية أليس فيرني الاضواء على الآثار النفسية بطريقة شخصية للغاية للتشكيك في عمل المؤسسات التعليميّة والقضائيّة. ولا تتوقف مؤلفة رواية (محادثة حب) عن ابهارنا بدقة تحليلها.
لقد اختارت فيرني بطلة ضد التيار على الرغم من انها ليست امرأة قوية بالمعنى الاجتماعي للمصطلح وليس لديها سلطة داخل المؤسسة التي توظفها، وهي موظفة غير مستقرة ولا تُحترم حقوقها الاجتماعية. لكن قوتها تكمن في استقرارها الزوجي، وحبها الأمومي، وإيمانها، وفي قلبها في حقيقة الأمر. وستتعرض هذه المرأة للهجوم في المكان الوحيد الذي تكون فيه متأكدة من قوتها، ومن قدرتها على الإحسان تجاه الآخرين. إنها بطلة خفية، واحدة من تلك الشخصيات التي لم نتوقع منها شجاعة غير عادية أو لفتة بطوليَّة، والتي ستُظهر لنا أنها قادرة على ذلك.. يُذكر بأن فيلم (بريئان) مستوحى من قصة حقيقيَّة. ولم يكن الأمر بالنسبة للكاتبة يتعلق بكتابة رواية لتصنع أنموذجًا لامرأة، بل كانت محاولة للتشكيك في سوء النوايا واحترام الآخرين والضحايا.
تقول فيرني عن روايتها: (المتهم،هو في الواقع ضحية، وهذا شيء أثار اهتمامي. كيف يمكن أن تحدث مثل هذه القصة؟ ولماذا يمكن الاساءة الى الفئات الأكثر ضعفًا، النساء، الأطفال، الأشخاص ذوي الإعاقة؟ أنا لم أخترع بطلة، بل حاولت أن أفهمها، وأضع نفسي في مكانها، وأتخيل ما مرت به. ويعتمد هذا الكتاب بالكامل على محاولة فهم للشخص الذي يتهم -الأم - وتعاطف مع الشخص المتهم خطأ - المعلمة-» .
من المؤكد أن المدرسة كمكان للحياة والتعليم هي أحد موضوعات الرواية. ومن خلال قراءة أعمال علماء النفس التربوي، اكتشفت المؤلفة إلى أي مدى تشكل جودة العلاقة والعاطفة بين المعلم والطلاب قوة دافعة غير عادية للتعلّم. ومع ذلك، ففي فرنسا، تعتبر المودة في المدرسة من المحرّمات، فالمعلم ليس موجودًا ليحب تلاميذه، بل ليعلمهم. فبعد أن عانت هي نفسها من هذه المدرسة، تريد بطلة الرواية أن تكون مشجعة ورحيمة مع الطلبة، فهي تعبر عن حنان تعززه حقيقة أن طلابها يواجهون صعوبة كبيرة ولديهم حاجة متزايدة للعاطفة. إنّها مقتنعة بفوائد نهجها، فهي ترى النتائج كل يوم. لكن مديرتها، على العكس من ذلك، تجسد الخط الرسمي، فهي تطبق القواعد فقط. لذلك تعتبر كلير في البداية متمرّدة ضعيفة، لأنها، على الرغم من ضعفها، تتمسك بأفكارها وقناعاتها ...
وتتماشى هذه الرواية مع تقليد تفضله الكاتبة وهو تقليد الرواية النفسية، فهي تهتم بما يعانيه الناس في أعماقهم من عواطف وأفكار وتحولات داخلية. وقد أسرتها شخصيات الأم والمعلمة والمديرة والينابيع النفسية التي تنبثق من دواخلهم. لقد اثار اهتمامها شيئان: كيف ولماذا يغذي المرء الشك؟ وكيف يشعر المشتبه به والمتهم ظلما؟ تقول الكاتبة: «في مرحلة الطفولة، تعلّمنا أن اتهام رفيق لنا هو أمر خطير ويجب ألا ننساه أبدًا.. كما ان المتهم المذنب، للمفارقة، أقل عجزًا من المتهم البريء، لأن الأخير يكافح للدفاع عن نفسه وعن حسن نيته، خاصة وان بطلتها كلير تحاول أن تكون هي نفسها، وأن تعمل على انتصار الحقيقة. ومع ذلك، فإن الحقيقة لا تنتصر وحدها.
لا تسعى الكاتبة أليس فيرني في روايتها الى استخدام أسلوب الإثارة والتشويق، حتى لو تناولت موضوع إجهاض العدالة، فهي لا تحب السرد الوصفي والإطار الإلزامي للرواية بدءاً من الموقف الأولي ثم الحدث وبعده الحل. في هذه المرة، أرادت التمسك بالأحداث، فكانت غائبة تقريبًا، وامتنعت عن أي تعليق أو استطراد. لقد شددت قدر الإمكان على كشف الأشياء لجعل القارئ شاهدًا. إنه شكل من أشكال التحقيق، الذي كان يمكن لقاضي التحقيق أن يقوم به. وللمرة الأولى، حاولت أن تمنح النص شكلاً من الاستقامة والفوريّة لأنّها أحبت العمل فيه، لذا استخدمت كتابة مبسطة، بما يعطي القارئ انطباعًا بأنه في نوع من التحقيق السردي، خاصة وانها تفكر في الروايات من منظور القصة والموضوع وقد قادها ذلك لدراسة الإجراءات القانونية والتعليمات وما إلى ذلك. فلمدة عامين، قرأت عن جميع القضايا الكبيرة، فضلاً عن أعمال المحامين الجنائيين الذي يتحدثون بطريقة مؤثرة عن المتهم بعد أن يدرسوا عن كثب كيفية حدوث أكثر الأعمال كارثية، ومن ثم يتكون لديهم شعور حقيقي بضرورة الأخذ بالظروف المخففة. وهو ما يجب أن يتمتع به الروائي أيضًا فالكاتبة تقول: «أنا لا أكتب لأحكم على شخصياتي، بل لأفهمها».