ناظر القطار الشعري

ثقافة 2023/07/10
...

 عباس ثائر

الموتُ وحده يقين الأحياء، حتى الشكاكون منهم لمْ ينجُ من مغنطته العجيبة. بإمكان الإنسان أن يتنكرَ للولادة، أنْ لا يؤمنَ بالولادات المقبلة بمجرد أن يفكر أن العالم يتجه نحو تقويض الانجابِ والعزوف عن الزواج، ولكن هل بوسعهِ أن يتنكر للموت ولا يؤمنَ بقدومه الحتمي المستمر؟، عن نفسي لا أظّنُ ذلك.
الموتُ هو السفرُ الأخير، سفرٌ لا يتوقفُ أبدًا عند محطة ما، لمْ نشهدْ أحدًا نزل بمحطة ليستريحَ، وكان قد استقلَّ قطارَ الموت، أنه قطارٌ يتحركُ من دون توقفٍ، من دون وجهةٍ يسيرُ، يستقلُه مسافرٌ لمْ يقفْ لحظةً؛ ليتزوّدَ بمتاعٍ بعد أن جلسَ في إحدى عرباتهِ، سفرٌ لا يعرفُ للبوصلةِ معنىً، إنه سفرٌ فحسب، أتحدث عن المعقول المادي لا الميتافيزيقي والمروي. الحديثُ عن سفر الموت يقودُنا للسفر بقطار عاطل، وقبل أن نرى القطارَ وكيف تعطلَ، وكيف يمكنُ السفرُ عبرَه، ينبغي أن أعرجَ على شطرٍ من بيت إحدى قصائد الشاعر حسين هليل: «سافر بِبُطءٍ رافقتَك الأنهرُ» هنا يبتهلُ الشاعرُ للآخر المسافرِ، برفقة الأنهر، إذ أنَّ الجملةَ الشعريةَ هذه تكشفُ عن رقة الذاتِ وإخلاصِها للآخر، أعني ذاتَه المائيةَ الشفافةَ التي تتضحُ في الشطر أعلاه، وهو خيرُ ما يُستدلُّ به على تجربته الشعرية والإنسانية، فمن يعرفُ إنسانيتَه لن يعثرَ حتى على خيط رفيع عازل بين التجربتين -الإنسانيّةِ والشعريّةِ- وصدرُ البيتِ هذا ما هو إلّا انعكاسٌ صريحٌ وصارخٌ لشخصيتِه وتركيبتِه السيكولوجية، فهو هادئٌ متأنٍ -غالبًا- في ردود أفعالِه، تجاهَ من يحاولُ أن يجرحَه جرحًا معنويًا أو حتى ماديًا، متأنٍ حتى في قصيدته، إذ ينتظرُها تنضجُ على مَهلٍ من دون أن يستعجلَها، ليَقطِفَ ثمارَها بعد ذلك، أسوقُ ما تقدمَ؛ لأقولَ: إن اللغةَ الشِعرية لدى صاحبِنا هي لغةٌ مولِّدةٌ ومولَّدة، إذ إنه جعلَ من الدعاء الشهير: «رافقتك السلامة»، «رافقتك الأنهر»، كأنه يفعلُ عبرَ القولِ والقصِ الشعري المختزلِ المكثف، ما تفعلُه النساءُ العراقياتُ حين يسافرُ عزيزٌ بأن يَسكبْنَ ماءً خلفَهُ، ليضمْنَ وصولَهُ فعودتَهُ سالمًا، من أين أتت هذه الأسطورةُ؟ ليس مهمًا مرجعُها بقدر ما يَهمُنا استلهامُ الشاعرِ للميثيولوجيا الشعبيَّة و «التفاعلُ نصيًا» معها والافادةُ منها، وخلقُ القولِ فعلًا محسوسًا مشهودًا في الذهن، إذ إنه جعلَ من القولِ المستهلكِ اليومي صورةً تحكي وتتحركُ وتُرى، كلُّ هذا عبرَ القصِ الشعري الموجز «الموجز!» وإن المرءَ ليبتهلَ كشيءٍ من الأعراف الإنسانية المشتركة نسبيًا، إذا ما غادره مغادرٌ ما لمكان ما بأن «ترافقه السلامة»، بينما انتهز هليل الشائعَ العامَّ من القول، ليجعلَه خاصًا عامًا «خاصًا لأن القولَ سينسبُ له، وعامًا لأنه بعد ذلك سيصبحُ قولُه -رافقتك الأنهرُ- بمتناول الجميع» إنه الانتهازُ الذي لا يدخلُ ضمنَ الانتهازِ المحظور اللانساني.
فالشاعرُ هنا أوّلَ النهرَ بالسلامة، أي أن النهرَ هو السلامُ والطمأنينةُ بحسابه. وللشاعرِ الذي يرى النهرَ السلامةَ، التي ينبغي أن ترافقَ الأحبةَ إذا ما سافروا، رأيٌ آخرُ في السفر، ويبدو أنّه استقرَّ عليه أخيرًا فعنوّنَ مجموعتَهُ الشعريةَ بـ «سفرٌ بقطارٍ عاطل» (الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق إثر فوزِها بالمرتبة الأولى في مسابقة الشباب، الدورة الرابعة، دورة الشاعر الراحل أكرم الأمير)، فإن السفرَ عبرَ قطار عاطل يصلُ الى «مدينة لا أين»، ولكنْ هل يسافرُ المرءُ عبرَ قطار لا يتحرك؟ يظهرُ أن السفرَ هو الإنسانُ، والقطارَ العاطلَ الزمنُ، فالقطارُ يبقى قطارًا وإن تعطل، إذ لا تزولُ عنه صبغتُه المادية، ولا يتبدلُ مسمّاهُ لمجرد أنه توقفَ عن العمل أو تعطل، إلّا أن الإنسانَ هو الذي يسافرُ مستقلًا هذا القطارَ ليصل أخيرًا لمكانه الذي سيتخذُه موطنًا أبديًا، أي أنه الموتُ. فعبر المجاز المحكم الدقيق في الوصف يحاولُ هليل أن يزيلَ البونَ الشاسعَ بين الممكناتِ واللاممكنات، وللمفارقةِ أيضًا أن خيالَه الواسعَ قد أخذنا معه لمستحيلِ اللا مستحيل؛ إذ كيف لنا أن نسافرَ عبرَ وسيلة سفر عاطلة؟ هذا سؤالٌ يُواجِهُ قراءةَ العنوانِ، قراءةً ظاهريةً، بينما يكشفُ باطنُ النصِ فكرَ الشاعرِ الذي أضمرَه واستظهرَ غيرَه عبرَ ثلاث كلماتٍ «سفر بقطارٍ عاطل» في دعوته للسفر الحتمي، وهو ينزوي للواقع المنكسر، ويؤمنُ بزوال الأشياءِ من دون أن يضعَ مستخلصاتِ التجميل على وجه الحياة لتَظهرَ بشكلٍ آخر غيرِ ما هي عليه واقعًا، وبحُلّةٍ أخرى جميلةٍ إلّا أنها كاذبةٌ مصطنعةٌ، هنا قد خرج الشاعر على بعض أسلافه من شعراء العمود، ذوي الفروسية والقوةِ الأزليَّة؛ واصطف لجانب الشاعرِ الهشِّ الكائنِ الضعيف الذي يتألمُ مثلَ الآخرين ويصرخُ ولا يكابر، يتألمُ لأنه من جنس البشر لا الكائنات الخيالية الخارقة، هذه هشاشةٌ سبقَه إليها السيَّاب والماغوط وبعضُ «الشعراء الزُجاجيين»، الذين كانوا يُعلنون عنها صراحةً في نصوصهم، فمثلَهم كان حسين هليل، “شاعرًا زُجاجيًا”. وبالعودة للعنوان، فهو يكسرُ قفلًا قديمًا على بابٍ كثيرِ التأويلات، يُدخلُ القارئَ للغة واضحة عميقة مع شيءٍ من الغموض المفهوم، فيسافرُ بقطار الإيحاء والتلميح والالتقاط الذكي، تاركًا قطارًا عاطلًا خلفه، كعلامةٍ تشيرُ الى السفر الأبدي عبرَ الخيال والمجاز. من خلال السفر بقطارٍ عاطل، قد سمح ناظرُ القطار الشعري أن يمدَ الماديُ يدَه لمصافحةِ المعنوي وإنه قد كشّفَ عن تماهي اللغةِ الشعرية عنده وتحرُّكها بين ما هو ملموسٌ وما هو محسوسٌ. عنوانُ الكتابِ عندي -أيُّ كتابٍ كان- يستدعي وقفةً طويلة، لا سيَّما أن عنوانَ الكتاب الأول للشاعر حسين هليل، المولود في قضاء الرفاعي.
في العام 1996 هو عنوانٌ مخلوقٌ من لغةٍ تلميحيّةٍ إن صحَّ التعبيرُ، فهو قد أخرجَ السفرَ من معناه الدنيوي لغةً وظاهرًا الى معنىً آخرَ وهو السفرُ اللّدني من خلال ما اكتنَزَه من معرفة. يبدو أن أنساقه الثقافيّةَ وقراءاتَه المختلفة لا سيَّما الدينيّة بشكلٍ عام، والصوفيّةَ والعرفانيّة بشكلٍ خاص قد أسهمت في تشييد التركيبةِ اللغويةِ لديه وتسرّبت بعفوية لظاهرِ النص، وهذا ما يُحسبُ للشاعر أنه استخدمَ جميعَ أدواتِه الثقافيّةِ وإن تنازلَ عن التمسّكِ ببعضها، في ما بعد، ليظهرَ قولُه الشعريُّ في أحسن
ما يمكنُ إظهارُه.