إزالة قشرة الحكاية السرديَّة

ثقافة 2023/07/12
...

محمد جبير

يضجّ الواقع اليومي بالكثير من الحكايات السرديَّة التي تجدها تسير بمحاذاتك، وتجلس إلى جانبك في سيارات النقل العام، أو في المقهى والسوق، أو حتى في فراش النوم في مراجعة أحلام اليقظة والخدر السابق لرحلة الأحلام اليوميَّة.
تحتاج هذه السرديات المعاشة والمتداخلة في رسم حركتنا اليومية إلى عين خبيرة وراصدة، وخيال إبداعي خلّاق لإنتاج معنى تلك الحكايات، وتطوير رؤيتنا الجمالية في النظر إلى الحياة حاضرًا ومستقبلًا والمحفّزة إلى تجاوز عثرات الماضي، ففي السرديات الأميركية التي ابتدأت مع فاصلة التغيير في التاسع من نيسان عام 2003، وما زالت إلى يومنا هذا، نحن نعيش ونتحالف ونتحاور مع مئات الحكايات كلّ يوم، وننسج في مخيلتنا حكايات وحكايات للتعشيق مع ما مضى بحاضر اليوم، كلّها تمرّ بشريط ومضي لا يبصره إلّا من يسهم في تشكيله ذهنيًا، ولكن لا يدوّن على سطح ورقة بيضاء ليذوب مع قطرات عرق مالح يُزال بالاستحمام اليومي في أيّام الصيف اللاهب، من دون أن يترك أثرًا سوى رائحة النظافة التي تزيل الشوائب من تلك الصور الذهنية لحكايات لم تمتلك شروط ولادتها الطبيعية.
كيف يتمّ إدراك الزوائد النصّية في الحكاية السردية؟ وهل كلّ واقعة تصلح أن تكون حكاية؟ وهل النمطية في الكتابة تصنع إبداعًا؟ هذه الأسئلة، وأخرى كثيرة يمكن لها أن تظهر على سطح القراءات للأعمال السردية الجيدة أو المتعافية البناء، وعكسها من السرديات الأخرى، إذ إنَّ هناك الكثير من الكتابات السردية التي صدرت بعد التاسع من نيسان 2003 اتّخذت عدّة مسارات في الكتابة، شكّلت في ما بعد أنماطًا فكرية في الكتابة السردية، ساهم في تشكّلها كُتَّاب جدد، فضلًا عن كُتّاب من حقب زمنية مختلفة عُرِفوا بنتاجات سردية سابقة شكّلت هويتهم الثقافية وأنضجت أسلوبهم في الكتابة السردية.
واتّخذت كتابات ظهرت في هذه المرحلة الزمنية الكتابة النمطية “الضد/ مع” في السرديات الأميركية التي أكّدت حضورها في العديد من الأعمال السردية، وَسَعَت إلى استقطاب المتلقّي العراقي والعربي الرافض للغزو الأميركي للعراق، في مقابل كتابات استثمرت فضاء إلغاء الرقابة لكشف المستور والمخبوء من الأعمال السردية أو الأفكار السردية المؤجّلة.
تأتي رواية “أوراق الهافانا” للقاصّ والروائي “علاء شاكر” ضمن هذا السياق في الكتابة السردية التي سعت إلى كشف المستور عن جوانب من وحشية النظام السابق، لا سيّما بعد محاولة اغتيال ابن رأس النظام في المنصور، وهو الحدث الذي سمع به الصغير والكبير ممن عاش تلك الأيّام، وهنا تكمن المجازفة والخطورة في الكتابة عن حدث تحوّل من حادثة شخصية إلى حدث عام مسّ حياة الكثيرين من قريب أو بعيد.
يذكر الروائي أحمد إبراهيم السعد في تظهير الكتاب الآتي “الروائي علاء شاكر ينتج رواية مغايرة- أوراق الهافانا- وهو يمثّل عقلًا إبداعيًا مختلفًا في الكتابة السردية”، أقتطع هذا المقطع لتأشير أو الدخول إلى الكيفية البنائية التي استثمرها الكاتب في إعادة تشكيل الحكاية، ونأخذ في التساؤل: ما الدوافع التي تدفع الكاتب إلى إدانة تجربة ماضية؟ وما النتائج التي يريد أن يحقّقها من وراء تلك الكتابة؟
يبدو لي أنَّ هذه الأسئلة، وأخرى على نمطها، تكون حاضرة على منضدة الكاتب قبل الشروع في كتابة العمل السردي، وألا يضيع في متاهة تمزيق المسودات الواحدة تلو الأخرى، وصولًا إلى النصّ الذي قد يُرضي بعض طموحاته الإيديولوجية أو الجمالية، أو يتركه لزمن النسيان لعدم استجابة النصّ لما يبتغيه الكاتب.
طُبِع النص وخرج عن سلطة الكاتب، وأصبح تحت سلطة المتلقّي، وقد نعثر على إجابات وافية للأسئلة المثارة سابقًا، أو لا نجد، وندخل في دائرة الافتراضات الشخصية، قلنا إنَّ بؤرة الحكاية السردية معروفة لدى الجميع، والكتابة عن الشيء المعروف لدى العام هو الامتحان الصعب للكاتب في جذب المتلقّي والتفاعل مع المروية الجديدة للحكاية السابقة، فقد لا يكون علاء شاكر مختلفًا عن سابقيه في كتابة هذا النمط من السرديات، إلّا أنّه اختلف عنهم في زاوية نظر السارد الفنان، وهي أول نقطة تميّز تجاه كتابة سردية جمالية على حدث يحمل دوافع إيديولوجية مضادّة، وبهذا وضع نفسه في موقع السارد المحايد الذي ينظر إلى الوقائع عبر مخيلة جمالية لا كما نظر الكثير إلى جرائم النظام السابق عبر التماهي مع الشخصية الصحفية التي تسعى إلى اكتشاف المتغير الآني بصيغة تقريرية، لأنّهم لم يتمكّنوا من أن يكونوا في موقع السارد المحايد، وإنّما وضعوا أنفسهم متماهين مع السارد، حيث يجدون ذاتهم مهنيًا وإبداعيًا في هذا الموقع من الروي.
في المقابل، هناك سرديات كثيرة صدرت في هذا الاتّجاه، كتبت في الضدّ من المتغيّر الجديد الذي أتاح أبواب الكتابة مشرعة في كلّ الاتّجاهات، وفي مختلف المضامين، وظهرت الكتابات التي توثّق لمواجهة الاحتلال، أو الأخرى التي تبتهل للتحرير كلٌّ حسب مسوغاته الفكرية، لكنَّ الأغلب الأعمّ أنَّ الكتابات التي كانت تشير إلى الفعل المضادّ هي الأقرب إلى ذائقة المتلقّي، وهو الأمر الذي يذكّرنا في النتاجات المضادّة في سرديات المرحلة الأولى “السرديات البريطانية”، فقد ظهرت في هذه الحقبة الزمنية أعمال سردية أكّدت حضورها أمام الكمّ الهائل في إنتاج السرديات الروائية في داخل العراق وخارجه من كُتّاب الداخل والخارج والذين التقوا على هدف واحد، هو رفض الاحتلال، مثل “الظلال الطويلة لأمجد توفيق، مشرحة بغداد- برهان شاوي، أموات بغداد- جمال حسين علي، فرانكشتاين في بغداد- أحمد سعداوي، الأمريكان في بيتي- نزار عبد الستار، ذكريات معتقة باليوريا- علي الحديثي، هياكل الزوال- مهدي علي إزبيّن، وكذلك “مثلث الموت” لعلي لفته سعيد، وشاكر نوري لا سيما في المنطقة الخضراء، وعواد علي في حليب المارينز، وحمزة الحسن في أغلب رواياته وآخرين.
هدف الفريقان “الضدّ/ مع” إلى التعبير عن المحمولات الإيديولوجية، كلٌّ من زاويته الخاصّة، لكنّ المهارات التعبيرية الجمالية بقيت متفاوتة في ما بينهم، وتحمل مهارات كلّ كاتب في التعبير وحياكة حكايته السردية بمهارة النسّاج الحكيم الماهر الذي يعتزّ بفلسفته الحياتية، وبما يحمله من مبادئ تجسّد نظرته إلى العالم المحيط به، وفي مثل هذا النمط من الكتابات يُسقط الأعمال السردية التي تتعكّز على الخطاب المباشر في الدلالة على أبعاد الحكاية المركزية أو الحكايات المحيطة التي تدور في فلك تبئير الحكاية المركزية، وتبقى الديمومة والاستمرارية للسرديات التي تتمسك ببعدها الجمالي الخاصّ.