د. علاء كريم
يعتمد المسرح العالمي اليوم في اشتغالاته على الفعل الإنساني وآليات معالجاته الفنيَّة، فضلاً عن مستوى تأثيره في إطار المحلية الملامسة للمجتمع، عبر العالمية التي تتقبل الثقافات بأنواعها، والأفكار التي هي جزء من مخزونها، لتنتج بالتالي رؤى إبداعية جديدة يمكن لها أن ترسم أبعاداً فنية مختلفة، منها ما تمثل التراث الشعبي والبيئي، وأخرى تتداخل مع حداثة الرؤية المعاصرة وشكل تطورها الذي يعود إلى طبيعة المكان والزمان، فضلاً عن اعتمادها على عملية التفاعل بين المسرح والجمهور الذي يشارك بها، وينفتح على ثقافاتها واشتغالاتها المعاصرة، وأيضًا يستجيب ويستوعب القراءات دون أحكام مسبقة، واعتماد التقنية الإلكترونية التي تعتمد الترجمة، وشكل القراءات النقدية والتنظيرية للفعل الجمالي، وهذا قد ينعكس على الإنتاج الفني الجديد الذي يكون له دور مؤثر في المسرح العالمي.
قد يلامس ذلك التحول الذي يشهده العالم على عدة مستويات، إذ يشكل هذا التحول دافعية للنمو والتطور بمعزل عما يحدث في العالم. ولو نعود إلى بدايات القرن العشرين ومنتصفه، نرى أنَّ هناك مدارس فنية تشكل ردّ فعل على الحروب والمتغيرات التي طرأت في العالم، ابتداءً من الدادائية، ومروراً بالتكعيبية، وليس انتهاءً بالسريالية، وغيرها من المدارس الفنية، وهذا ما تجسد في المسرح والفنون الأخرى. إلا أنَّ ما يجري الآن من أحداث غيرت نمط الحياة البشرية، ومنها ما عكسته جائحة كورونا، والتي نتجت عنها رؤى فنية جديدة، وعمليات يمكن لها أن تنتج مساحات إبداعية مختلفة. لا يمكن لها أن تحدد تفاعل المسرح العالمي في إطار النصوص المسرحية، أو ما ينحصر في هذا الجانب وحسب، بل أنه قد يتجاوز ذلك، وينزاح إلى أسلوب العرض المسرحي من حيث الرؤية الإخراجية والأداء التمثيلي، وبعض عناصر العرض الأخرى كـ”الموسيقى” والرقص والإضاءة وتصميم المناظر (الديكور)، والأزياء وبقية المؤثرات المتنوعة. وهذا ما يؤكد أنَّ التأثيرات في المسرح العالمي تعتمد الفكرة التي تقترب من معاناة الناس، والتي تجسد موضوعة قد تترك دهشة وفق ما تعتمده المدرسة الرمزية والتعبيرية، كونهما أكثر اقتراباً من المشهد الحقيقي للأزمة الإنسانية.
وفي أعقاب الحروب والكوارث التي ظهرت من خلالها عروض مغايرة في المسرح العالمي، والتي شكلت مجموعة صور جسدت الموروث التاريخي للمسرح، فضلاً عن أنها مثلت اتجاهاً عكس حالة الارتباك الذي نتج عن هذه المتغيرات، ظهرت أغلب العروض وكأنها دون رؤية أو دراسة، واتصفت نهاياتها بأنها غير مرئية المعالم، مما يعطي انطباعاً بأن مصير الإنسانية بسبب الظروف الصعبة يكون مجهولاً، مما استدعى ذلك أغلب فناني المسرح إلى العودة إلى نصوص (صمويل بيكيت) ومنها مسرحية في (انتظار جودو) التي انزاحت لمسرح العبث، وأيضاً نصوص وكتابات (يوجين يونسكو) و(جان جينيه) وغيرهم. المسرحيون اليوم أمام تحديات ومسارات جديدة، فهل يمكنهم العودة إلى الأنماط المسرحية القديمة أو عليهم طرح عمل يجمع كل الرؤى الحديثة وإدخالها في المسارح العالمية التاريخية وإتاحتها للجمهور. كما حدث في نيويورك، إذ عملت بعض الفرق المسرحية على إيجاد طرق يمكن لها أن تحرك الساكن وتبتعد عن التقليدية عبر تجوالها في المدن وفي كل زقاق وبلدة ومدينة، لتؤكد حاجة إظهار المسرح الحيّ، وأهميته التي أصبحت أكثر ضرورة من أي وقت مضى آخر.
وعليه أصبح المسرح العالمي الحي اليوم أكثر أهمية وضرورة من أي وقت مضى، كون تجربة العروض الافتراضية جعلتنا نعيد التفكير بالعديد من التجارب، ونتأكد أنَّ علاقة الممثل بالجمهور أساسية ويجب التمسك بها لأهميتها، رغم حداثة التقنية وما أدخلته في المسرح العالمي. وتبقى تجربة المسرح الوطني البريطاني، متميزة وذلك لاعتمادها في بعض العروض ومنها الافتراضية، كاميرا من زاوية معينة تتغير كل فترة، ويمكن التحكم فيها باستمرار، وطبيعة المهنية العالية في تبديل زوايا الكاميرا بحيث تصبح زاوية المشاهدة هي وجهة نظر المصور واللقطة المأخوذة، وليست زاوية المتلقي، مما زاد ذلك من واقعيتها، فضلاً عن أنها تعد إضافة كوسيط جديد في التجربة المسرحية، أقرب إلى السينما، حتى وإن كانت تجربة افتراضية. بالتالي بدأ أغلب فناني المسرح العالمي اليوم التفكير بطرق جديدة للتعبير، من أجل تغيير نمط الفضاء المسرحي، وأن يكون المسرح متاحاً للجميع، لأنه في الأساس فن يتطور ويتغير باستمرار.