سارق القطة

ثقافة 2023/07/12
...

الكاتبة الكورية سون بو- مي

ترجمة: جودت جالي

قال :”كنت بعيداً عن كوريا زمنا طويلاً”.
كنا نتناول الشاي في مقهى بوسط البلد. حاولت تذكر آخر مرة رأيته فيها فلم أستطع التذكر. حين أبديت تعليقاً عابراً بخصوص مؤقت الشاي* الموضوع فوق منضدتنا وقلت كم هو جميل، مد يده فوراً وأخذه ودسه داخل محفظتي. كان المؤقت، المصنوع على شكل ساعة رملية، يحتوي على حبر أزرق يجري عكسياً من القعر إلى الأعلى. همستُ وأنا أنظر إلى ما حولي في المقهى:” تلك سرقة”، فأجاب :” وأنا بارع فيها. لقد سرقت في رحلاتي السنين الماضية أشياء عديدة” .
لقد احتفظ بالأشياء التي أخذها في خزانة زجاجية في حجرة الجلوس. شوكة فضية من مقهى باريسي، وصحن كوب شاي من مطعم لندني، وسلة خيزران كان فيها سحلبية من فندق منام لليلة وطعام إفطار في نيو دلهي، وقلم يعود لمستخدم على منضدة استعلامات متحف في برلين. سرق أيضاً منفضة رماد من فندق بأوساكا (لكنه أُمسك بالجرم المشهود ولم يكن أمامه خيار سوى إعادتها)، وكذلك قطة من نيويورك..
:” إنتظر، أسرقت قطة؟” .
أجاب :”في الحقيقة كانت تلك هي أول شيء أسرقه” .
*
بدأ يتحدث عن الشقة النيويوركية التي عاش فيها بعد طلاقه. قال :” كانت بناية في حالة سيئة، ولكنها نظيفة. يسكن فيها أمامي عبر الممر رجل في بداية ستينياته إسمه إمرسون. سكن وحيداً. حسن، ليس وحيداً بالضبط، فقد سكن مع قطته ديبّي. رجل عجوز مفرط البدانة يسكن وحيداً مع قطته” .
كان إمرسون يتمايل بسبب وزنه بشكل مضحك عندما يمشي، ومن المذهل أنه يمتلك صوتاً ناعماً، وقد تبادلا الحديث في الممر بين الحين والآخر، وفي كل مرة كان عليه أن يصغي بعناية ليفهم ما يقوله إمرسون. لم يتزوج إمرسون مطلقاً، وقد كانا كلاهما ينكتان على حالتهما الاجتماعية، ويسميان نفسيهما “المطلق والأعزب”، وربما أصبحا بسبب كل هذا التنكيت مرتاحين تماماً لبعضهما بعضاً. دعاه إمرسون نهاية أسبوع إلى شقته ليتناولا بعض البيرة”: وهناك كانت ديبي. كلية السواد ما عدا بطنها البيضاء ومخالبها. حتى ذلك الوقت لم أعرف أن لديه  قطة. عندما كنا ندخن ونتحدث لبعض الوقت، لاحظت بأنها تراقبنا من تحت الأريكة، ورأسها فقط بارز. لم أشاهد قطة من هذه المسافة القريبة جداً قبل أبداً. حاولت أن ألاطفها ولكن حالما رفعت يدي انسحبت بسرعة تحت الأريكة. عند ذاك فقط انتبهت إلى أن كل الصور المؤطرة على الجدار كانت صورها. إن ديبي، بكلمات أخرى، كانت عائلة إمرسون الوحيدة” .
بعد ذلك كان يجتمع بإمرسون في أغلب الأوقات. نكّتا، وشربا، ودخنا معاً، وديبي تحدق فيهما لبعض الوقت وتختفي تحت الأريكة. وجد حياته مُرْضيَة بأسلوبها الخاص. برغم ذلك، إذا تحدثنا موضوعياً، ستكون مبالغة وصف حياته بأنها مرضية. لقد تبع فتاته الأميركية إلى الولايات المتحدة مع أنه لم يكن يعرف أحداً في البلد، ولكن بعد أن تزوج لأقل من ثلاث سنوات، تركته. ثم لظروف مختلفة متزامنة أضطر إلى ترك وظيفته.
:” بسببها، سُرقت حياتي مني. ألا تظنين ذلك؟” .
مع ذلك لم يفكر أن وضعه سيء تماماً. السعادة والملل ووفرة العلاقات والوحدة ملأت حياته بالنظام، كما لو أن هذه الانفعالات قد نسجت بتقاطعها معاً حياته، وكنتيجة، شعر بأن حياته متزنة بشكل غريب، وفوق هذا كله كسب صديقاً إسمه إمرسون. على كل حال، فيما كان ثملاً بالإحساس بالتوازن فقد توازنه المصرفي فإنحل اتزان حياته المنسوج.
:” لحسن الحظ طلبتني شركتي السابقة. قالوا إن كنت أرغب بالبقاء أعمل لهم يمكنهم نقلي إلى فرع فيلادلفيا. لم يعد لدي سبب للبقاء في نيويورك، ولهذا قررت المغادرة. لكن أولاً أردت أن أقول وداعاً لإمرسون. في الليلة السابقة لمغادرتي سكرنا في شقته، وربما بكيت، وربما ربت على ظهري. من يدري. ثم رحت في النوم على أريكته” .
أحس في وسط الليل بشيء يحدق فيه واستيقظ مجفلاً. شيء ما في الظلام كان يراقبه. كان ذلك الشيء ديبي. كانت جالسة بأناقة أمامه وأمام إمرسون الذي كان غاطاً في النوم على الأريكة أيضاً. نهض مبعداً بحذر ذراع  إمرسون التي كانت ممدودة عبر قدميه. أبقت ديبي عينيها عليه الوقت كله، وعندما خرج إلى الممر وكان على وشك إغلاق الباب الأمامي انتبه إلى أن ديبي ما زالت تراقب. مشت ببطء نحوه. ثم أقعت وحدقت إلى الأعلى مادَّةً كفيها الأماميين نحوه.
:” كما لو أنها كانت تقول أريد المغادرة، أريد ترك هذا المكان. رجاءً خذني معك. فجأة بدا لي أن تركي لها ورائي خطأ. لا أدري لماذا خطر لي هذا”. التمعت عينا ديبي في الظلام. حملها، وسار خارجاً من البناية وغادر نيويورك.
*
قلت :” لقد فعلت شيئاً بالغ السوء” .
:” عدت إلى نيويورك بعد حوالي أسبوعين. كان يجب علي أن أعود، ولأني لم تكن لدي الشجاعة لأبرر أفعالي لإمرسون خططت لأن أتركها عند باب شقته، لكن الشقة كانت فارغة وعندما سألت مدير المِلْك عما حدث قال بأن إمرسون قام بالانتحار” .
:” انتحار؟” .
قال :” وجدوه بعد أسبوع من مغادرتي. لقد شنق نفسه” .
:” أين ديبي الآن؟” .
:” إنها في البيت، أعدتها إلى بيتي. لماذا؟ أتريدين أن تقابليها؟” .
ترددت لحظة، ثم قلت أخيراً :” كلا!”
أومأ برأسه.
تحدثنا عن أشياء أخرى بعد ذلك وضحكنا مرتاحين. مع هذا كنت طوال الوقت أفكر. قاتل! عندما مر وقت آخر تلاشت الفكرة من بالي، وبدلاً منها كنت أتخيل نفسي وقد عدت إلى منزلي، أنعم النظر في مؤقت الشاي والحبر الأزرق يأخذ طريقه إلى القمة.
___________
Freeman’s anthology.The Cat Thief” by Son Bo-mi.
tea timer*  جهاز للتوقيت مثل الساعة الرملية يحسب الوقت، بضع دقائق، لتغميس كيس الشاي في كوب الماء الساخن.
* ولدت سون بو- مي في كوريا الجنوبية سنة 1980. بدأت مشوارها الأدبي سنة 2009 وقد حصلت على جوائز عن كل كتاب من كتبها. هي زوجة الكاتب كيم جونغ-أوك.