المتاهة الكافكويَّة والحلم العابر للحداثة

ثقافة 2023/07/12
...

 ليوبولد لامبرت
 ترجمة: نجاح الجبيلي
إن رواية «المحاكمة» تحمل كل ميزات الحلم. وحقيقة وجود جوزيف في الفراش من السطر الأول من الرواية – حتى أنه يظهر نائما في الفيلم- هي مجرد مفتاح في هذا الاتجاه. السرد بأكمله يشبه تماماً الحلم ويتركز على شخصه ولا يبدو أي شيء موجوداً ما لم يوجد هو أيضاً. فالحلم إذن يتوزع بين العناصر التي تشكل أوهام ومخاوفه والتي يمكن أن تصنف هذا الحلم ككابوس. على مدى السرد كله يوزع ك. الأوامر ويلقي الخطابات البليغة التي تعبر عن وهم السلطة التي لا يبدو أن الشخصية في فيلم أورسون ويلز – والتي يؤدي دورها أنتوني بيركنز- تملكها أصلا حين يلاحظ المرء حضورها غير الجذاب (غير الكاريزمي).
يعمق هذه المفارقة نجاحه المذهل مع النساء اللاتي يقعن في حبائله بكل تلك السهولة التي يمكن التعبير عنها فقط بالوهم. سنجد مرة أخرى هذا الوهم في رواية «القصر» التي يحمل بطلها اسماً هو نفس اسم بطل رواية «المحاكمة».
ومنذئذٍ يمكن أن تتحقق البارانويا (الشعور بالاضطهاد) إذ يصبح كل رجل تهديداً أما لنفسه ولقضيته الشرعية أو لنسائه اللاتي ينتهين بالاختطاف من قبل رجال آخرين. يصور أورسون ويلز أيضاً مثل هذا «الاختطاف» بمشهد فيه امرأة أغواها تواً ويحملها قاض في كل موضع معبّر يذكر برواية «جان بولون» «اغتصاب المرأة الصابية».
هذه البارانويا ينطق بها خلال جلسة الاستماع له في قاعة المحكمة إذ يشجب سلطة علوية يعتقد أنها تظلمه:
قال بهدوء: «لا شك أن خلف أفعال محكمة العدل هذه، أقصد في قضيتي أنا، وخلف طريقة القبض عليّ واستجوابي اليوم يعمل تنظيم هائل، تنظيم لا يستخدم فقط حراساً مرتشين أو مفتشين على قدر كبير من الغباء أو قضاة تحقيق أقل ما يقال عنهم أنهم يدركون نقائصهم، بل أنه أيضاً يضم تنظيماً قضائياً من أعلى المستويات، له كتيبة وشرطة وعملاء ومساعدون وربما منفذو حكم الاعدام».

المحاكمة حلم
فرضية وجود سلطة علوية «تسيطر على الماكنة» هي المسألة الرئيسة في رواية «المحاكمة». إن نظرية المؤامرة الحرفية هي بالتأكيد افتراض أقل أهمية. على أننا نستطيع أن نتساءل إن كان النظام البيروقراطي اكتسب تفوقه الذي يكون الآن خارج أي سيطرة إنسانية أو أن الإدراك الديني لهذه الماكنة يحمل هذا التفوق حين تكون وظيفته مؤثرة فعلاً فقط عن طريق الملازمة أو التأصل. إذا ما لوحظت هاتان الفرضيتان بطريقة أكثر دقة فإنهما تظهران متشابهتين. وهنا تكون المحاكمة التي نهتم بها هنا أكثر دقة وتعني أن رواية «المحاكمة» هي حلم فعلاً. في الواقع ليس من المهم لو أن التفوق حقيقي أو مجرد أنه موصوف هكذا بما أن السرد ليس سوى مدرك حسِّي محض بلا وجه خلفي.  
في الفقرة السابقة أثرت فكرة السيطرة التي هي أساسية في الرواية كما هي في الفيلم. إن كافكا حقاً هو مكتشف نوع جديد من المتاهة. يقف هذا الاكتشاف بعيداً عن الأنموذج الكلاسيكي والفائق للمتاهة، التي تظهر المؤلف ينظر إليها من عل، ويتلهى بتلك الأجساد المشوشة التي تسيء العمارة معاملتها. وعلى العكس فإن متاهة كافكا تحتفل بتأصلها بشمول مؤلفه الخاسر ضمن المتاهة. يعطينا كافكا العديد من المفاتيح في هذا الاتجاه، اسم الشخصية التي يمكن أن يرتبط باسمه، رجال الشرطة الذين يجري عقابهم منذ البداية فضلا عن الماكنة التي يكونون في خدمتها والغياب الواضح للسيطرة من قبل أي شخص على هذا النظام. غير أن أورسون ويلز يذهب أبعد بأن يؤدي هو نفسه دور المحامي. وبذلك يكون قادراً على خلق حدث إضافي يحتفل بفقدان السيطرة للمؤلف بسبب عمله. في الواقع إن الفيلم يجسد المشهد المكتوب من قبل كافكا والذي فيه يطرد المحامي من الخدمة مثيراً سخطه ويأس المرأة «ليني».
وبما أن أورسون ويلز يؤدي دور المحامي فإنّه يمسرح هذه اللحظة من فقدان السيطرة بجعل الممثل ينبذ المخرج من دون إنهاء الفيلم. لهذا فإن التفوق أو التجاوز مرفوض لكن عليه حينئذٍ أن يجري سلطة حلوليَّة مخيفة.
إنَّ فضاء مثل هذه المتاهة لهذا السبب ذو أهمية أساسية ويجري التعبير عنه بالطريقة نفسها لدى كل من كافكا وويلز. فالفضاءات مستمرة وتبدو محتوية الواحدة للأخرى والتي تؤكد استحالة الخروج. إنَّ تغاير الأساليب المعماريَّة في الفيلم (الحديث، الكلاسيكي الجديد، القوطي) سيبدو فاقدا للتأثير المتاهي بينما هي تخلق المحليَّة؛ ومع ذلك وبظهورها مجاورة الواحدة للأخرى تحافظ على شعور البناية الفريدة اللانهائيَّة التي لا تملك مخرجاً.

متاهة متحققة
إنَّ الكلوستروفوبيا (الخوف من الأماكن المغلقة) لا يجري إثارتها في هذا السرد من خلال العظمة التي عبرت عن وطأة التجاوز أو السمو. وحين يذوب السمو في الفيلم يكون على أن يهرب من خلال ممر ضيق جداً من الخطوط التي تمتص الشخصية بينما هي مطاردة من قبل مجموعة من الأطفال الخائفين الذين تؤكد ضحكاتهم وصرخاتهم على البارانويا.
تفتتح متاهة كافكا فصل الأدب الحديث لأسباب مستقلة جزئياً عنه. في الواقع إنه لم ينهِ أبداً رواية “المحاكمة” وأراد أن تكون جزءًا من المؤلفات الذي يجب أن يحرق بعد موته. لكن ماكس برود صديقه ووكيله الأدبي لم يقرر إنقاذها فحسب من الحرق، بل كان عليه ان يعيد جمع الفصول غير المنتظمة بترتيب ربما ليس من اختيار كافكا. إنَّ المتاهة التي خسرت صانعها أيضاً كانت لهذا السبب متحققة. فقط الفصل الأخير من الكتاب يضر بهذا الانجاز إذ يفرض نهاية حين يبدو السرد بأكمله موجهاً نحو لا نهايته. وحدها اللا نهاية تمد الكابوس بما فيه الكفاية كي تشخصنه بشكل صحيح.

دالة الموت
حينئذٍ يمكن للمرء أن يدلّ على أن الموت يجب أن يكون موجوداً كي يعالج مشكلة الحرية. إن الحرية الحقيقية المعبر عنها في رواية “المحاكمة” هي قبول الحكم كما نراه في الفصل الأخير من الرواية. لهذا فإنّ رواية “المحاكمة” هي مرض يواجه حتى موته السامي ويجعله أكثر حرية من الإنسان – المسمى “بلوك” في الرواية- الذي لم يبدأ إجراء قضيته (هنا المرض) والذي يسمح لنفسه أن يهينها المحامي. وكما يشير الأخير في المشهد نفسه: “غالباً من الأفضل أن تكون في القيود بدلاً من أن تكون حراً”. إن فعلاً واجه هذه المسألة بعد أن أصيب بالدوار بسبب الجو المشبع في “المحكمة” وأن المرأة التي تقوده نحو مخرج، تسأله: “لماذا لا تخرج؟، ذلك ما كنت تريده!”.
حين كنت أحضّر لهذه المقالة كنت أفكر بأنموذج “كبلر روز” المنشور عام 1969 والتي يضع خمس عتبات سلوكية للمرض والرفض والغضب والصفقة والكآبة والقبول التي تبدو تتوافق بدقة مع السرد. غير أنّه يبدو لي من الخطأ الاصرار على مجاز المرض هذا أزاء مجاز الحلم مثل عملية تتضمن تسلسلاً زمنيّاً صارماً يتناقض مع تعريف المتاهة الملازمة (المتأصلة) التي قدمتها حتى الآن.
ولهذا السبب يجري التفكير بالموت بطريقة غير متسلسلة زمنياً ويسمح الحلم لنا أن نفكر به بهذه الطريقة. في الواقع أن الموت يمكن تشخيصه بالتعليق المطلق للزمن الذي يؤدي إلى لا نهائية الحلم المدرك والذي ينزع نحو الموت من دون الوصول إليه. يمكن للمرء حينئذ أن يرسم منحنيات للزمن كما جرى وصفها من قبل أولئك الذين يتعرضون لها. حين يتم تمثيل الكائنات الحية بالمنحنى الخطي فإنّ الكائنات الميتة يتم تمثيلها كدالة بلا أعراض واضحة من لحظة موتها. إنَّ هذه الفرضية بالطبع تنكر الفصل الأخير لرواية “المحاكمة” بهذه الطريقة. في كتاب “كافكا: نحو أدب ثانوي” يستذكر جيل دولوز وفلكس غوتاري فرضية أن هذا الفصل ربما يكون حلماً حلمه في مكان ما وسط السرد. في هذه الحالة أشير في هذا المكان، الذي يكون فيه السرد بأكمله حلماً، بأن هذا الفصل الأخير ربما يكون على النقيض هو اللحظة الوحيدة من الواقع. في هذه الحالة وبإتباع فرضية منحنيات الزمن أشير أن هذا الفصل الأخير سيكون في الواقع هو الفصل الأول الذي يسمح بالحلم اللا نهائي أن يبدأ.