محمود نجم الدين العمار
يولد البشر وكثيرٌ من أجهزتهم الحيوية، لم تكتمل بعد مما تطلب الاعتماد على البالغين لرعايتهم وحمايتهم، ومن هذه الرعاية والحماية استمدت المرأة سلطتها على أولادها، ولم يكن الإنسان قد عرف بعد سر الإخصاب، لذا فقد كان ينظر إلى المرأة على أنها تقوم بشيء خارج عن العادة والمألوف، وكانت تعدّ رمز الخصوبة والنماء والوفرة. تدين الحضارة البشرية إلى النساء في اكتشاف الزراعة، بعدّها امتدادات لنشاطات جني الثمار، حيث كانت النسوة تجمع النباتات والحبوب، بينما يقوم رجال القبيلة بمهام الصيد؛ وبما أن الحبوب صغيرة وكثيرة فقد كانت تسقط على طول الممرات التي كانت النسوة تسلكها، فنبتت هذه الممرات بما كانوا يجمعونه من ثمار، وبذلك كان الفضل للنساء في اكتشاف الزراعة، وهذا على ما يبدو ما جعل الآلهة الإناث يعزى إليهن تقديم هذه الهبة للحضارة، ففي بلاد ما بين النهرين قدست الآلهة إنليل، لأنها قدمت لشعبها المعلومات الأولى عن طرائق الزراعة والحصاد، ويرجع الفضل في اختراع اللغة والأبجدية في كثير من الحضارات إلى إلهة أنثى، حيث كرمت الإلهة ساواسفاتي بعدّها مخترعة الأبجدية، بينما في إيرلندا الكلتية احترمت بريجيت بعدّها الإلهة الكبرى للغة، وكشفت النصوص عن أن الربة نيدادا في سومر، هي التي كرمت بعدّها إحدى اللواتي كن من أوائل من اخترع الألواح الطينية والكتابة، لقد ظهرت تلك الآلهة الإناث في هذا الموقف قبل أي إله ذكر حل محلها في ما بعد.
وقد احتفظ العرب القدامى بقرائن تؤكد أن سلطة الأم كانت شائعة في ما مضى بنسبته إلى الأنثى، فقد جاء على لسان وليد ابن الربيعة البيت الآتي:
وكل ابن انثى لو تطاول عمره.. إلى الغاية القصوى فللقبر آيلُ
وجاء على لسان كعب بن زهير ما يؤكد المعنى نفسه بقوله:
وكل ابن أنثى وإن طالت سلامته.. يوما على آلة حدباء محمول
كانت سلطة الأنثى حاضرة عند كل الشعوب في أرجاء المعمورة، وقد احتفظت البشرية بهذا الإرث ردحا طويلا، فلا يمكن عبادة شيء إن لم يحظَ بشيء من الاحترام والتبجيل في تلك الحقب التاريخية، فلو تتبعنا أنثوية الآلهة في الثقافات المتعددة، لوجدنا الإلهة عشتار في بابل وأثينا وأفروديت في اليونان وإيزيس في مصر ولاكشمي لدى الهندوس وفريا لدى النورديكية وديانا لدى الرومانية واللات والعزى ومناة عند العرب.
يبدو أن السلطة الأمومية كانت متجذرة لدى معظم شعوب الأرض، ولكن ما الذي أدار الكفة ورجح كفة ميزان الرجل؟ يجيبنا فريدرك إنجلز في كتابه «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة» أن النكاح عند الأولين كان فوضويا وغير محدد بشروط، لهذا كان النسب محصورا في الأم، وكانت سلطة الأم شائعة بين الشعوب القديمة على الإطلاق، حتى إن الفرد يتبع طوطم أمه لا طوطم أبيه، وكذلك كان نظام الإرث لديهم يرجع إلى الدم المشترك من جهة الأم، وبما أن التركات كانت عديمة القيمة، فحتى المرحلة الدنيا من البربرية، كانت الثروة الثابتة تتألف كلها من المنزل والثياب والحلي الفجة الصنع وأدوات للحصول على القوت وإعداده، أما القوت فكان يجب الحصول عليه كل يوم؛ ولكن بفضل الزراعة واستئناس قطعان من الجمال والخيل والحمير والماشية، صارت هذه الملكية لا تتطلب سوى الإشراف وأبسط صنوف العناية، وبدأت هذه الثروات تنمو بالتكاثر وتمد الإنسان بأجود أنواع الغذاء (اللحم والحليب)، فغدا الصيد كماليا بعد أن كان في ما مضى ضروريا، وكانت كل تلك الثروات ترجع إلى عشيرة الرجل المتوفى بناء على حق الأمومة، وكان أولاد المتوفى يحرمون لأنهم لم يكونوا ينتمون إلى عشيرته بل إلى عشيرة أمهم.
إن تنامي هذه الثروة بدأ يهب الرجل مكانة في العائلة أهم من مكانة المرأة، وتولّد لديه من جهة أخرى الميل إلى استغلال هذه المكانة المعززة للإطاحة بنظام الوراثة الأمومي لمصلحة أولاده، فكان لا بدّ من القضاء على هذا النظام، وقد قضي عليه فعلا؛ ولكن مع هذا فإن التاريخ لا يزال زاخرا بأدلة وقرائن، تدل على أن البشرية اعتمدت هذا النظام ردحا طويلا وأن السلطة الذكورية لم تنشأ إلا حديثا.