النقد الفلسفي وأثره في الواقع

ثقافة 2023/07/13
...

  حازم رعد
سبق في مقالات عدة أن القراءة النقديَّة من أهم أدوات الفلسفة للكشف عن الواقع، وأنه ارتبط النقد بالفلسفة حتى رأى البعض ألا قراءة نقديَّة ذات جدوى سوى الفلسفة، لما تتسم به من عمق وعلميَّة واحتراف في قراءة الأشياء والنصوص والأحداث. وللوقوف على حقيقة النقد، فإن أفضل طريق نسلكه هو تعريف الشيء من خلال خصائصه فهي ما تقودنا إلى فهم حقيقي بالشيء، وبذلك نتوفر على مستويين من الادراك، الأول معرفة خارجيَّة تتناول صورة الشيء، وهذا المستوى رغم الحاجة اليه إلا أنه يبقينا عند حد ضئيل من المعرفة والكشف.

والآخر معرفة داخلية تتناول الحد الماهوي أي نظرة فاحصة ممعنة في طبقات الشيء وليس الاكتفاء بالنظر الخارجي، والفلسفة واحدة من تلك الاشياء التي نتناولها أحياناً من خلال خصائصها وميزاتها.
وأن من أهم ما امتازت به الفلسفة هو خاصيَّة الحسّ النقدي، فإنَّ “اعادة انتاج السؤال الفلسفي المطروح بدويّاً، يخطر في الذهن عدم إيفاء الاجابة الأولى بغرضها الأساسي، وهو الافهام ومن هنا ينشأ الحس النقدي في الدرس الفلسفي”.
والنقد من أهم الأدوات التي تشتغل من خلالها الفلسفة كممارسة عقلانيّة تهدف إلى بيان القيمة الفعليّة للأشياء موضوع النقد، فهو في جوهره عملية تمييز بين الجيد والرديء، وذلك ما يستلزم معرفة تامة، وكذلك حفر في عمق الشيء للكشف عنه، يقول كانط (يتعين على كل شيء أن يخضع لمحك النقد) ذلك لأنّه بيان للقيمة الحقيقية للشيء المنقود.
إذ تكرار النظر في الشيء والدقة في تناوله والتعمّق في فهمها وادراك ما تتوفر عليه من وعي ومعنى يكون متخفيا فيما لو كان النظر والتأمل يتسم بالسطحيّة فهو والحال هذه ممارسة عقلانيّة مهمة.
يقول باروخ سبينوزا إنّ [العقل النقدي ليس دائماً قادراً على معرفة الحقيقة، ولكنه على الأقل قادر على كشف الزيف]، فليس بمتناول الإنسان دائما القدرة على كشف الواقع والتوصل إلى معرفة كنهه، وليس ذلك مانعاً يحول من دون مواصلة البحث والتنقيب لأجل الوصول إلى تلك الحقيقة، وفي هذه الحال ما ينتج عن هذه العملية هو الكشف عن الزيف المتوفر في الأشياء وتمييز ما هو حقيقي كما هو وهم وخاطئ، وهذه نتيجة جليلة أن تحقق معرفة “تفرقة” بين المزيف وبين غيره.
وفي حال أخرى لا يمكن بحال أن يقع “النقد” متناول الجميع أو تعبث به أيادٍ ليست مختصة في هذا المهم المعرفي الأصيل. للنقد صور عدة لعل منها ما فيه نزوع إلى الانتقام من الآخر، أو الفكرة، أو الهدم للمبتنيات لا تقويمها وإصلاحها.
وقد يكون النقد تهكماً وسخرية.. ونجد ذلك في فلسفة سقراط وكيف أنه كان يتهكم على خصومه في النقاشات العامة، وتوظف السخرية كطريقة لنقد أخطاء السلطة كما في طريقة ديوجين الكلبي، وقد يكون النقد على شكل تكرار طرح الأسئلة في دلالة على عدم الاكتفاء بالإجابات المطروحة، وهكذا تتنوع صور النقد بحسب الطريقة التي يجدها الفلاسفة مناسبة وملائمة للظروف وطبيعة الخصم.
والشائع في الوسط الشعبي أن من صور النقد هو إظهار المعايب في النصوص والأشياء من دون ايجاد حلول أو معالجات لها، وقد يكون ذلك نقد لأجل توجيه النقد فقط، فهو عمل عبثي أو ناقص على اقل التقديرات لا يستهدف اصلاح أو تعديل أو حتى ضميمة قصد الانتقام، فإطلاق الأحكام بلا معرفة أي لأجل الثرثرة وتخطئه المنجز بلا دراية يؤدي إلى تجاوز الانصاف ومحايثة الخطأ ستكون حتما هي النتيجة النهائيّة، فمن السهل استباق الأحكام والتعجل بإصدار الحكم لأي فاشل وفوضوي لا يمت للموضوعيّة والتحقيق الصحيح بصلة.
فما أيسر أن يقوم البعض بتقييم أي منجز أو فرد أو عمل، لا لشيء علمي، بل كغواية نفسية أو ميل ورغبة لقدح الآخرين ومنجزاتهم وكمثال على ذلك (تصور أن عملاً ما في أي حقل سواء كان مسرحياً أو سينمائياً أو علمياً أو أدبياً أو منجزاً فكرياً استغرق إعداده أسابيع وشهوراً وخسائر ماديَّة وما يتخللها من تعب ومتابعة وغيرها من الأمور التي تواكب إنجاز الفعل أو العمل، وبعد ذلك كله يأتي ساذج وغير مختص أو هاوٍ أوجدته الصدفة في ميدان ما، ليحكم عليه بكلمتين “إنه عمل فاشل أو لا قيمة له” وقد تجد من يصغي لتلك الترهات بحجة حرية إبداء الرأي الفكر، ومن هذه المبررات التي تصك الاسماع بلحن مزعج عند الاصغاء لها.
ولذا فإنه من البديهي عند ذوي العقل الراجح أن يقال إن التقييم والنقد لا يخضع للأمزجة والأذواق العامة، بل للحرفية والتخصص والموضوعية بغية اسعاف النص والظاهرة المراد نقدها والتفتيش في طبقاتها التي ستثير معرفة وفكراً، يقول اريك فروم في هذا الصدد: “ليس التفكير النقدي هواية، وإنما هو مَلَكَة. وليس التفكير النقدي شيئاً تستخدمه بوصفك فيلسوفاً وعندما تمارس الفلسفة تفكر نقدياً، ولكنك عندما تكون في البيت تتخلّى عنه، تخلعه، إنّ التفكير النقدي خصيصة، مقدرة، مقاربة للعالم ولكل شيء؛ وهو على الإطلاق ليس نقدياً بمعنى العدوان، والسلبية، والعدمية، بل على العكس يقف التفكير النقدي في خدمة الحياة، في خدمة إزالة عقبات الحياة التي تشلّنا وإزالتِها فردياً وجماعياً”.
 فالنقد عمل مهم اقل ما يقدمه بناء صروح الاعمال والفنون والمعرفة والمنجزات، يقول الدكتور زهير الصرَّاف “النقد نوع من أنواع المناقشة والحوار العلمي ويتناول النقد الصحيح للخطأ والصواب بدقة وصراحة، النقد باب لاكتمال المعرفة عند الفرد، بحيث يتجنّب السلبيات من الأمور ويكمل الايجابيات منها”.
وعليه هو لا يخرج عن كونه عملية تقييم لحالة أو لمنجز واسعاف وتمييز للعناصر التي تشكل بنية أي موضوعة يتم نقدها وتقييمها وبطبيعة الحال، هكذا ممارسة مهمة جداً فهي تحتاج الى معرفة تامة وشاملة بالموضوع الذي يخضع للنقد وأيضا تحتاج لتماهي الناقد مع النص بشكل عام الذي ينقد ويقيم بحيث يكون الفاعل جزءاً من المنقود من حيث الفهم والانسجام حتى يحمي النص من الاسقاطات التي قد لا تكون مقصودا لصاحب النص الكاتب والروائي وصاحب المنجز مهما كان، ومن ثمَّ تكون النتيجة التي يخلص إليها الناقد موضوعيّة ومنصفة، وهذه هي غاية النقد الفلسفي وهي حراسة النص وتمييز الخطأ والصواب فيه وتنقيته من
الشوائب وتقويمه.