طالب عبد العزيز
لم تعد مقهى الأدباء بالبصرة مأوى خالصاً، تزدحم في المساءات كما كانت، لكنَّ جدرانها تصطكُّ بهم وبأصدقائهم في صباحات كلّ يوم جمعة. هناك برنامج أسبوعيٌّ يُعنى بالثقافة وما يجاورها، تقيمه إحدى منظمات المجتمع المدني (التجمع الثقافي في البصرة) تغطّي بعض الأنشطة المدنية، يحضره المتقاعدون من المثقفين وسواهم، من الذين يجدون عذرهم في البُعد والكهولة تقاعسهم عن الذهاب لحضور أنشطة اتحاد الادباء، وقصر الثقافة، وجمعية التشكيليين، الكائنة في البصرة القديمة، لذا، ارتأت ثلةٌ منهم (الادباء وأصدقاؤهم) أن ينتظروا حتى ليلة الخميس ليذهبوا مذهباً آخرَ في لعبة الحضور والغياب، لعبة تجمع بين الشعر والقصة والرواية والرسم في جانب، والخمرة والسياسة والنساء والسفر ومعاقرة الاحلام الاخيرة في جانب ثانٍ، وبذلك جعلوا ليلَهم هو الأجمل. ضمن مراقبتي البطيئة وجدتُ أنَّ أحاديث ثلتنا في الليالي تلك، والتي تشبه كثيراً أحاديث ثلل ثقافية غيرها، في بغداد والمدن العراقية الاخرى تذهب هدراً، وتمضي بلا تدوين، على اهمية أو فوضى ولا جدوى ما يدور فيها، من آراء وأفكار، فهي تضيع مثل حياتنا، التي أهدرت، وتهدر كل يوم. نحن أمّةٌ زهدت في ما هو أكثر أهمية من ذلك، ولم تقف بأقلامها على وقائع أهم وأدق تفاصيل حياتها، وقد أضعنا احداثاً ليس أقلّها ما كان لنا-نحن المثقفين- من مآسٍ ومصائب في حرب الثمانينات، بعد أن أغفلنا تدوين الوقائع الجسيمة تلك، ولم يخلد بيننا إلا ما كان (مآثر) للنظام في القصص والروايات التي كتبها البعض من الادباء المنتفعين، والتي جاءت متسقة مع فكره وتطلعاته. الزقاق مظلم، والضاحية القديمة وسط المدينة تودِّع كلَّ يوم بيتاً، فهي تتآكل، والمكان، مكتب أحد الاصدقاء (المأوى) بسيط ومتواضع، تغادره الجرذان من ثقوبه، حال دخول الاصدقاء من بابه الزجاج، حاملين أشياءَهم. المركبات تلقي بهم قريبا منه، أو بعيداً عنه، ليس هذا بمهم لأحدهم، لكنهم يدخلونه بثياب هي الاجمل، وبابتسامات تأخذك الى السعادة وما يجاورها. بقبعته الروسية، يأتي رضا المشاهدة، أستاذ العربية، المتهمُ بالخوف من زوجته متأخراً، لكنه سرعان ما يبدد التهم تلك، فهو اضمامة لغويَّة، وبطانة علم وفكر، أما صالح جادري، الفنان، الذي هجر العربية (تخصصه) باكراً، وذهب بكليته الى التشكيل والالوان واللوحات، فهو دفتر أحاديث كبير عن الرسم والسينما والفنون، كذلك يكون الفنان والشاعر والكاتب والاعلامي هاشم تايه بمجيئه المتقطع، والذي نتوسّله حضوراً، على درايتنا بموقف أمِّ عياله من بغضها للحضور ذاك، فهو عالم اللغة، الذي لا يحدّثُ اللحنُ اللغويُّ نفسَه بالوقوف على لسانه وقلمه. أقول واثقاً بأنَّ الاكاديميِّ، المتخصصَ بالفكر السياسيِّ المعاصر محمد عطوان أصغرنا عمراً، لكنه أغزرنا علماً، وهو المتمكن القادرُ على نثرُ الفكر والسياسة والادب والفنون على مائدة حديثه، ولنْ أتحدثَ طويلاً عن أبي عراق الشاعر، المتطرّفُ في حبّه، الغاضبُ لمعتقده، راوي حكايات الأزمنة، وصندوق الجدّات الأجمل، وجامع أمثالنا الشعبيّة، وشاعر الأغنية والهايكو، والباحث في شؤون الفولكلور فهو أكثر من ذلك بكثير.
ومن فرجةٍ هي الأجمل يدخل القاص رمزي حسن قلوبنا قبل دخوله علينا المأوى، يحمل بيده زجاجات ماء البربيكان وكيس الجبس والفاكهة، ذلك لأنَّ قلبه ما زال في معركته مع الكهرباء، أشعر والاصدقاء بالضجر إنْ لم يأتِ، خوفنا من قلبه حاضراً أكثر من خوفنا عليه غائباً، هذا النحيف الذي يسبغ على المكان ألفةً. هل أقول بأنَّ فائق حنون، الشاعر الذي لم يغره النشر، ولم يستهوه تراكم منشورات البعض، كان يأخذ على عاتقه نثر إبريق العطر، ولتكون قصيدة الإغريقي كافافي (إيثاكا) بترجمة نعيم عطية التي يفضّلها على باقي الترجمات مسك ختام الجلسة: وهذا هو يقف مستنداً على عكازه ثلاثي الركائز منشداً:
قلت: سأذهبُ إلى أرض أُخرى،
إلى بحر آخر، مدينة أخرى ستوجد أفضل من هذه،
كلُّ محاولاتي مقضيٌّ عليها بالفشل،
وقلبي مدفون كالميت،
إلى متى سيبقى فكري حزيناً؟
أينما جلتُ بعينيّ، أينما نظرتُ حولي،
رأيتُ خرائبَ سوداء من حياتي حيث العديد من السنين
قضيتُ وهدمتُ وبدّدتُ.
لن تجد بلداناً ولا بحوراً أُخرى
ستلاحقك المدينة وستهيم في الشوارع ذاتها،
وستدركك الشيخوخة في هذه الأحياء بعينها،
وفي الأحياء ذاتها سيدبُّ الشيبُ في رأسك،
ستصل على الدوام إلى هذه المدينة.
لا تأمل في بقاع أُخرى، ما من سفين لأجلكَ،
وما من سبيل، وما دمت قد خرّبت حياتك هنا
في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت».
بودي أنْ أعرّج بالحديث أكثر عن الاصدقاء الاساتذة مصطفى السعد ويوسف الهاشمي وأبي محمود وأبي سامر وأبي حيدر، وأجيء على ذكر حوداث ووقائع هي الأجمل لكنَّ المتاح في الورقة هذه ضيقٌ. كانت الثقافة العراقيَّة وما زالت تتأسس في المآوي المظلمة تلك.