أَختَرِعُ الرّيح الحزينة كُلّما تبدّدتْ

ثقافة 2023/07/15
...

  ملاك أشرف

جاءت الرّيح الحزينة قويّةً
وأنا أمشي بطريقةٍ لا معنى لها
فكُلّما اشتدّت زعزعتني، إذ أُتمتمُ وانزعاجي يزدادُ:
لا أريدُ أن تخطفني وأنا في ريعان شبابي الشّاعريّ
وحينما ألحظُها تعصفُ بي أكثر أُنادي مفجوعةً:
لا أريدُ شيئًا يمحو جانبي الشِّعريّ
لكنّها عندما هبت مرَّةً تِلوَ الأُخرى أيقنتُ أنها أيقظتني.
حاولتُ الإدراك لوحدي
حاولتُ أن أفهمَ بمُفردي
أرعبتني الوحشةُ الغلّابة فهجرتُ الحقيقةَ
لَمْ تعطني الرّيح سوى ما فريتُ منهُ.
في أيّ لحظةٍ سرابيّة أفزعتني
وأنا طافحةٌ بظلامي المديد؟
أزيحُ الضّوءَ عنّي كي أقبعَ غافلةً إلى أبدٍ إخلاصيّ
وحدهُ هروبي كطائرٍ صريعٍ يدفعُني إلى حافّةِ اليقظة،
دع الرّوح تجرؤ وتخطو ثانيةً
حينها ستحملُ في معطفِها التكيّف
لتواجه اِندلاع الطّبيعة بالضّحك!

القلم القاتم الّذي رميتهُ بعدَ نفادهِ
كانَ الأحبّ إليّ ولأنّي لَمْ أعد مُتمسكةً بأحبابي،
تخلّيتُ عنهُ على قارعةِ الطّريق
أهو تدريبٌ للنفسِ أم سكرة لعينة؟
مُتوهِّمة أني سأتخلّى عن التخلّي أيضًا.
أوه، إذا الرّيح خلخلتني
فالمطر إن اِنهمرَ يجرفُ قافيتي
أرفضُ الغد المُلطخ بالشّكوكِ
وأؤمن بالخوف الباعث بجوقة الاِغتراب نحوَنا
لِأصلِّ من أجلِ الحُرّية المُرتجفة في شتاءِ الزّيف
ومن أجلِ روحي الوديعة المكشوفة في صقيع الحياة
حسبي من الأيّامِ نهارًا، قربانَا وأزهارَ اللّيلك..

لا تنشدُ الرّيحُ ترنيمةَ فرحٍ إن تبعثرتُ
ولتبقَ في حزنِها الأبديّ الجميل ما دمتُ من الأموات
بتحوّلي إلى حجرٍ هل أنجو من كُلِّ هذا؟
لا تعلم؟
أنا كذلك لا أعلم، إذن من يعلم؟
الرّيح صامتة لن تجيبني
وحصاد عُمري زهيدٌ لن يلتفتَ إليَّ
رُبَّما لَمْ أكن إلّا قشورًا
وها أنا ذا أرتقبُ ساعةَ تطايري السّاذجة
عرفت الأشجارُ الباكية النّهايةَ أسرع منّي،
حدّقت في النّهرِ الكئيب بغيةَ الإغفال
أنا لن أُبالي بعدَ الآن إلّا بمَن يبكون عليَّ
يندبُونَ ذاتي المهجورة الكمدة، وصمتي الرّقيق
يتذكَّرُونَ براري وحدتي الضّبابيّة الدَّامسة قبلَ الغروبِ.

أنا الشّمعةُ البكّاءةُ الّتي تضيئهم
وتنفضُ عن داخلِهم صدأ الظّلام
كجيكورٍ خالدة في حياتِهم الشبحيّة
كالصّوت الّذي يأكلُ من جدران وحدتي العاريّة
ليتسلّلَ بعدها غافيًّا على شَعريّ الحريريّ الذهبيّ
ما بالي لا أكف عن مُراقبةِ جذور السّموم؟
طوبى للريح الّتي تشغلني عن تراكم القبور
طوبى للخديعة الّتي تتبعني مُقلدةً اسمي
حيث ألمعهُ بدمعةٍ لِتمرَّ خيبةٌ وتعلق بهِ
وحين أُغافلها، فإنها تنمو ببطءٍ إلى أن تضمحلَ
من دون اسمي، في الألم حكمة الملاك
كانَ بإمكاني طرد تلكَ المُخاتلات
إلّا أن الحفاظ على الشّجن الدّفين شيمة الشُّعراء
ما كانَ الوجعُ عبئًا زائدًا، بل كانَ جوهرَ الإبداع
لذا أَختَرِعُ الرّيح الحزينة كُلّما تبدّدتْ
لكنني "لستُ معنيّةً بأطوارِ الهبوب"
أتركُها تتمدّدُ في الأمكنةِ
ذات الأزمنة الجامدة كيفما يحلو لها.
ما زلتُ أتمشّى تاركةً قدميَّ تتئدُ
ذلكَ العشب الذّابل يشهدُ
أني لن أعبرَ أيّ جسرٍ طالما الرّيح
معي.