المبصرون الثلاثة

ثقافة 2023/07/15
...

  مهند الخيكاني

وضع سارماغو عينه اليمنى على الطاولة، وقرّر أن ينظر إلى العمى بعينه التي لا ترى النور.
فعل ذلك بعدما استفزه بورخيس كثيرا في لقاءاتهم العديدة، وحديثه المكتنز عن عالم ما وراء النظرة، حيث كان بورخيس ينفرد في تأملاته عن العالم الأسود، وخصوصا حديثه عن الضوء الكامن في العتمة، ذلك الشعاع الذي يسبح في بحار داكنة من الظلام. كان بورخيس معجبًا بسارماغو العنيد، الذي أحسّ بأن تجربة الشيء وعيشه لا يمكن في أية حال من الأحوال مطابقة التكهن الفطري ولا الافتراض المدروس، ولم تقنعه كلمات بورخيس تلك التي كان يزفها إلى مسمعه:
- سارماغو عزيزي، أنت معجزة. صدقني عندما أخبرك بتلك الحقيقة. أنت تتحدث عن العمى كما لو أنك أعمى منذ الولادة. تتحدث عنه وكأنه عالمك البكر، كأنك ولدت من أبوين مصابين به، أو أنهما ينحدران من سلالة ترى بحواس أخرى غير العين. أقول لك هذا وأنا أسمع عن تلك التفاصيل المضاءة في كلامك، بالإضافة إلى ما ورد في روايتك. أقولها لك بملء فمي: لا يكتب عن العمى سوى متبصر حقيقي يخترق الحجب.
وكان سارماغو يضحك تلك الضحكة التي تزينها أسنانه المكتهلة، وتلمع في عينيه من تحت النظارة لمعة الامتلاء ومناسيب الرضا الدفاقة للحظات، بعدها يعود إلى كآبةٍ ملموسة تلطّخ ثياب الكلمات الخارج من أعماقه. بورخيس يستطيع بسهولة رؤية تلك الكآبة، بعدما فقد قدرته على النظر، إذ صار بإمكانه بعد وقت قصير، من القراءة عبر السمع، أن يشاهد في مخيلته ألوان الكلمات وأزياءها، مرونتها وحدتها، نصاعتها وظلاميتها. سابقا كان كأي ناظرٍ يحتكم إلى رسمة الحرف وصياغة الكلمة، لكنّه الآن يرى ما تحت جلد الكلام، يخوض في لحمها الحلو والمر، يتذوقه بلسان يكاد يتجسد عندما ينغمس بكلهِ داخل عوالم الكلمات.
وقد رأى كيف أن سارماغو فعل فعلته تلك، ونزع عينه اليمنى كي يعيش تجربة العمى، بالطبع لم يتوقع أن تقوده تلك الكآبة إلى مثل هذا المآل، ولكنه حدث وانتهى وعليهما أن يتعايشا مع وتيرة التغير الجديدة. ويخوضا في حوارات مغايرة.
بدأ سارماغو رحلته المظلمة، انغمس في نفق مظلم طويل، دخل النفق على عجالة، وتبسّم، فقد تيقن أنه فعل الصواب حين تنازل عن تلك العين، وراح يتصفح ذلك النفق المظلم، كان عالمه سخينًا وثقيلا وسميكًا، الا أنه بعد مضي قليل من الخطوات، تكيّف معه كما يتكيّف الوليد مع ضوء الحياة لأول مرة، وسافر وحلّق في كل مكان يدق جرس فضوله. أراد سارماغو أن يختبر الحياة والأشياء والعالم من جديد عبر نافذته الظلماء، أراد أن يُشبِع جوعه إلى المجهول، ويطرد التكرار الذي التهم روحه وظهر على شكل صفارٍ فاتر رآه من خلال النفق.
كان النفق مقسّمًا إلى نوافذ، كل نافذة مقسومة إلى نصفين من خلال خط يتوسطهما، نصف مظلم وآخر مضيء، وكل نافذة تؤدي به إلى عالم من عوالم حاجته إلى الاكتشاف، ولكنّ المفاجأة حدثت حينما صارت المشاهد كلها تتسرب إليه على هيأة النافذة المقسومة إلى نصف مظلم وآخر مضيء، وأحيانا حين يقطع مسافة ويوغل في المسار الذي رسمته تلك النافذة، فإن الجانبين يتبدلان، إذ هما ليسا على وتيرة واحدة في بقاء الجانب المظلم مظلما دائما، ولا الجانب المضيء مضيئا دائما.
وجد سارماغو الوضع محيّرًا، ويحتاج إلى تفسير. فعاد إلى المقهى الواقعة بين عالميّ الظلمة والنور، وهي منطقة وسطى يلتقي عندها الأضداد ومن فقدوا حاسةً من حواسهم، ليلتقي ببورخيس ويستفسر منه عن تلك الثنائية التي رآها ولم يصل معها إلى رؤية واضحة.
أمعن بورخيس فيما ذهب إليه رفيقه في الحديث المستجد عن العمى، وحاول أن يجد تفسيرًا لتلك النوافذ المتناقضة، ووصل إلى باب بعدة احتمالات لا غير، طرحها كما وردت في ذهنه:
- سيد سارماغو، ربما هو الضوء الذي يلمع في الظلمة. مثلما يقال أحيانا عن الوردة المزهرة بين الانقاض. وربما لأنك تعمّدت التخلص من عينك اليمنى، ولم يكن الأمر مجرد حادثة أو عثرة من الولادة. وهناك تفسير أخير وبعدها أرجو أن تعذرني، ربما لأنك بعين مظلمة واحدة، لا بعينيك الاثنتين. ولكل عين كما افترض ذاكرة تخصها، والجانب المضيء قد يكون ذاكرة عينك الاخرى، لا تنسَ أنهما كانا معا طوال حياتك الماضية يتشاركان السراء والضراء.
لم يُظهر سارماغو أية استجابة توحي باتفاق مع أول تفسيرين وصل اليهما بورخيس، بل وجد أنهما تفسيران بديهيان، ولكنّه ضحك ضحكةً نحتت زورقًا على وجهه، حينما وصل بورخيس إلى التفسير الأخير.
فأضاف بورخيس لأنه لمح شيئا قادمًا لا يريد له أن يحصل:
- ما رأيك أن نتأكد أكثر ونسأل أكثرنا خبرة ومعرفة بعالم العمى؟