جماليَّة الأدب والمنظور التكاملي

ثقافة 2023/07/15
...

  حسن الكعبي
استنادا للمحددات النظرية في تعريف مفهوم الجمال في الأدب أو المنهج الجمالي في الأدب والنقد الأدبي، فإن هنالك عددا من المفاهيم والمسميات التي تختلف في تعريفه، لكنها تتفق على جوهر الفاعلية الجمالية في الأدب، من خلال حصر الوظيفة الجمالية في توليد المتعة عند القارئ، دون أن ترتبط بسياقات أخرى قابلة للتأويل والتحليل، بمعنى أن النص الجمالي هو بنية مكتفية بذاتها ولا ترتبط بسياقات أخرى، وذلك ما نجده في تصورات المنهج الشكلي الذي درس الأدب بوصفه بنية جمالية مكتفية بذاتها،
 وأن الأدب يجب أن يدرس في حدود هذا العزل - أي عزله عن السياقات المرجعية - بوصفه تجربة جمالية بريئة عن ارتباطات مرجعية تشكل حقله الدلالي، وهذا التصور هو المهمين على المذاهب الاستاتيكية، التي تدور تصوراتها حول أربع كلمات مفتاحية هي "جمالي، فني، أسلوبي، شكلي" تهدف إلى  مركزة النص ضمن الحدود الشكلية أو البنية الشكلانية للنص، وما يضفيه الشكل والإطار العام والبناء الداخلي في النص من جمالية خالصة، بعيداً عن علاقته بالمجتمع أو دلالته على مؤلفه أو محتواه.
في هذا السياق، فإن المنهج الجمالي في النقد الأدبي يؤسس لاستقلاليته عن باقي المناهج (السياقية) التي تدرس الأدب من منطلق ارتباطه بسياقاته الاجتماعية والتاريخية، فضلا، عن ارتباطه بالمؤلف (منتج النص) الذي اقصي دوره في التصورات البنيوية في سياق الافتراض البنيوي لــ (موت المؤلف) كما عند رولان بارت. بيد أن هنالك تصورات اخرى للأدب تعمل على استنبات منهج تكاملي  يعتمد الاستراتيجية المزدوجة في قراءة النصوص، في مسعى منه لأن  يمنح النص فضاء أوسع في التعبير عن نفسه بوصفه تجربة جمالية واقعية هي نتاج تشكلات خطابية تقع خارج حدود انتاجية النص، أي أن النص في تجربته الجمالية انما يرتكز على تجربة واقعية يتم نقلها إلى الحقل الابداعي، وذلك يعني ضرورة دراسة الأدب كمعطى جمالي ضمن السياقات والفواعل الانتاجية المسهمة في تكوين التجربة الجمالية، وهو ما يقصد به (المنهج التكاملي) الذي يعني الاعتراف بالمنهج الجمالي وادماجه بالمناهج السياقية. بمعنى أن المنهج التكاملي في هذا الاطار يهدف إلى دراسة نصوص الأدب الجمالية ضمن السياقات التي تم عزلها في التصور الشكلاني.
فالكتابة بشكل عام – ضمن هذه المحددات السياقية - هي فعل جمالي يسعى في انتاجيته المعرفية إلى تكريس قيم المحبة، وتخطى حواجز الدوغما للوصول إلى لحظة التنوير بطبعتها الإنسانية التي تتطلع إلى ادماج العالم ضمن هوية إنسانية عابرة لكل التحيزات الفئوية، فالكتابة مشروع لتحرير العقل من الانسدادات والدوغمائيات كما عند - محمد اركون مثلا- وهي ممارسة تحريضية ضد كل اشكال الدوغما وهي فك مهيمنات السحر بتشكلاته الايديولوجية عن العالم كما عند (ماكس فيبر) وهي هواية تنخرط بشكل مماحك ومستفز للتحكمات والاكراهات الايدولوجية وهدم ركائز المؤسسات السلطوية وتفكيك قوامعها عند المتقف الفوكوي، أو قد تكون مهنة احترافية حسب إدوارد سعيد تذعن وتمتثل لإملاءات السلطة مقابل مردود مالي، أو هي مساهمة ديمقراطية في تكريس جمالية النزعات الانسانية في سياق التوسعة الدلالية لمفاهيم التسامح، وقد تتجه الكتابة اتجاها مضادا أي اتجاها تحريضيا ضد اشكال التسامح والمحبة، أي تلك النوعية من الكتابة التي تتعلق بالنصوص الظلامية المنتجة للإرهاب، لكن هذا يظل شكلا من اشكال الممارسة الكتابية وأما جوهر الكتابة أو أصلها، فهو يتعلق بفعل التنوير وصناعة الجمال والمحبة.
إن الكتابة وهي فعل ابداعي في كل الحقول، إلا أنها ستتخذ مسارا آخر عن مسار التصنيفات السابقة، إذا ما تعلق الامر بالكتابة التي تتغذى على متخيلاتها الشعرية واستعانتها بهذه المتخيلات للوصول إلى سؤال الوظيفة الكتابية، وهو السؤال الذي سيضعها ضمن المستودع الدلالي وانتاج المعنى من الكتابة ضمن التصنيفات الاولى، بمعنى أن الكتابة في هذا المجال تسعى لأن تحرر الوعي عن طريق تحرير المتخيل من قبضة الاسطوري والرمزي وتشغيله ضمن الواقع – أي - بجعله مثابة من المثابات القرائية للواقع فالخيال كما يقول سارتر (هو الوعي بأسره من حيث هو قادر على تحقيق حريته) أو كما يقول باشلار (المخيلة اكثر عمقا من الذاكرة، اذ في حريتها المتوحشة يتجسد جوهر الفكر). بمعنى أن الكتابة سواء تعلق الامر بالممارسة النقدية أو الفكرية أو بالممارسة الشعرية أو الأدبية الجمالية فإنها تسعى إلى المبتغيات ذاتها في تجاوز النزعات الاصطفافية والانتماء إلى الفضاء الانساني الأكبر، فالقيمة المتحكمة بمشروع الكتابة هي إنسانية لتحرير العقل والروح من ضواغط التحيزات الهوية وتحكمات المخيال المحرض على الكراهية. بمعنى أن الكتابة هي فعل تحرير شامل للإنسان من الانغلاق ضمن سياج هويته الفرعية إلى فضاء حر يسعى للاندماج في الامبراطورية الإنسانية التي تسودها روح القوانين الإنسانية.
نستنتج في ضوء هذه المعطيات، بأن الكتابة بحد ذاتها فعلا جماليا يسعى لتحقيق قيم إنسانية في الواقع الاجتماعي، لكن الأدب يبقى أكثر اشكال الكتابة انتاجا للجمال وأكثر
اشكالها مسعى في تحقيق القيم الإنسانية.
وفي اطار هذا المسعى يتحدد ارتباطه بسياقته العامة، ومن ثم  ضرورة دراسة الأدب ضمن الحدود الجمالية التي تحكمه كأحد أهم وظائفه الإنتاجية، لكم في سياق الانفتاح على السياقات الحاضنة له، بغية الوصول إلى فاعلية التأثير والتأثر في الأدب وما يفرضه من أشكال قيمية تسعى لتغيير المفاهيم القبحية التي تغرس أنساقها في المجتمعات كأشكال ضارة يجب التخلص منها عبر انتاج الجمال.