خيانة الناقد

ثقافة 2023/07/15
...

 أحمد طه حاجو

يعد النقد العنصر الأهم في تقويم المنجز الابداعي، وعلى جميع المستويات الأدبية والفنية والثقافية وبصورة عامة، فالنقد كما هو معروف (عملية اظهار محاسن ومساوئ المنجز) وليس ابرازها فحسب، بل زج اقتراحات لتقويم المنجز في حالة رصد القصور، وفق المعطيات والمنطقيات والسياقات المتبعة بالجنس المختار، وحتى المحاسن لدى رصدها عليه أن يكشف المعيار الساند لها والألية المتبعة من قبل المبدع في بنائها.
 ويعد الناقد الأول (ارسطو) في العصر اليوناني الذي أسس لمفهوم النقد عبر كتابه (فن الشعر) الذي نظّر فيه لأسس الدراما والشعر، وأعتبر الوحدات الثلاث هي المنطلق الاول لرصانة المنجز الابداعي الكلاسيكي، وبات كتاب (فن الشعر) مرجعاً اعتمده العديد من الكتاب والنقاد في العصر الروماني والعصور الوسطى، وبعدها فرضت المتغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية حاجات أخرى وبات كتاب (فن  الشعر) لا يتوائم مع ذلك العصر.
 وعبر العصور كان للنقد مكانته التقويمية البارزة، فظهرت المدارس النقدية والمناهج المعروفة البنيوية والتفكيكية والنقد الاجتماعي والباطني والنقد بواسطة القواعد والنقد الانطباعي والنقد العقيدي والنقد الباطن والنقد الثقافي ، وكان لكل نوع من تلك الانواع حاجتها الماسة المنبثقة من المرحلة الزمنية.
 كما أن المرحلة الزمنية كانت وما زالت تفرض مهيمناتها على الواقع، وهي التي تدعو الناقد لتبني المنهج الذي يتواءم معها، فالواقع عادة يحدد بصورة غير مباشرة الحاجة وبالتالي يستجيب لها الناقد ليكون خطابه مؤثراً، فالخطاب النقدي عادة يحاكي منجزاً ما، وذلك المنجز هو ابن تلك المرحلة، فينبغي أن يكون الخطاب منبثقا من روح المنجز الابداعي ومتواصلاً مع رسالته المضمرة ليؤدي وظيفته النقدية بصورة ايجابية، أي ساندة له.
والناقد عندما يتناول المنجز عليه أن يتجرد من أناه ليكون موضوعياً، ومهما اعجب الناقد في المنجز الذي بين يديه عليه ان لا يقع في خانة المدح، فلا مكان للمدح في عملية النقد، فكل مفردة يتفوه بها الناقد ينبغي أن تكون لها مبرراتها وضرورياتها.
كما لا يخفى علينا بأن الرأي النقدي خاضع بنسبة 60 بالمئة لثقافة الناقد ومحتواه الذي تشكل وفقه منذ نعومة اظافره، فللبيئة والنشأ الاولى والأيديولوجية، التي ينتمي اليها الناقد وقعها على تشكيل خطابه النقدي، ومهما حاول التقيد بالمناهج النقدية في بناء رأيه تجاه المنجز إلا أنه لا بد من أن تكون هناك فروق في رأيه النقدي لو قورنت في رأيٍ آخر لناقد آخر كان قد نشأ في بيئة تخالف بيئة الناقد الأول في المنجز نفسه.
وفي الفترات الأخيرة في ظل العولمة وعصر السرعة برز العديد ممن يحاولون ارتداء معطف النقد، لكنهم اخفقوا، لأنهم انتجوا خطابا لا يمت للمنطق النقدي بأي صفة، أي أن خطابهم يندرج ضمن الخطابات المداحة والمجاملة، لأنه لا يحتوي على عناصر النقد من أبراز المحاسن والمساوئ وطرح المقترحات المبررة وفق المناهج النقدية التي اسلفنا ذكرها.
 وفي جانب آخر نجد أن اسماء لعددٍ من النقّاد يمجدون بشخصيات صاحب المنجز الركيك ويفتعلون خطاباً (مدّاحا) لذلك المنجز ويبررونه باسم (النسبيّة)، ولو قورنت تلك المنجزات الركيكة مع عناصر الجنس التي تنتمي اليه، لكانت فقيرة جداً، فهي عبارة عن تجارب لهواة في أول الطريق، وهنا نستطيع أن نصنف تلك النخبة من النقّاد ونصفهم بـ (الناقد الخائن) لشرف الكلمة وشرف النقد وشرف الإنسانية، لأن النقد هو الأداة الساندة للمنجز ورسالته الانسانية، بغض النظر عن مستواه، فإبراز المحاسن تكون تثبيتا لمستوى المبدع، أما ابراز المساوئ، فهي الأهم لأنها ستنبهه أن يغّير مساره وابتكار شيء جديد، ليحقق مبتغاه الابداعي والجمالي والإنساني.
الناقد الخائن: هو ذلك الناقد العارف بفنون صنعته وتاريخها وحيثياتها، لكنه يحابي لمصلحة شخصية ودنيوية، في حيث ينبغي عليه أن يكون حريصاً أكثر من المبدع نفسه على المنجز الذي يتناوله، لأنه وضع نفسه في خانة التقييم وفق المعايير المثبّتة والمعروفة، فلا يجوز أن يرتكب حماقة الخيانة في ابداء رأيه، لأنه رأيه سيكون حجّة عليه في المستقبل، وأمام المجتمع الذي يوثق كل شيء، خصوصاً ونحن نعيش أوج حالات العالم الرقمي، فالتوثيق بالصوت والصورة متاح للجميع، فلا يستطيع الناقد أن يتملص من رأيه الذي صرح به في المستقبل القريب.
فيا ناقدنا الجميل لا تفسد تاريخك الثقافي الزاخر بمناهج النقد والمعايير، بلحظات المجاملة فالتاريخ يسجل والباحثون سيقرؤون ما خطت يداك، وسيلعنونك ويلعنون ما أبديت من آراء.