عبد الكريم قاسم بعد 65 عاماً

آراء 2023/07/16
...

 د. صادق كاظم
قد يكون الحكم على أداء أي زعيم سياسي بعد سنوات طويلة من تجربته صعبا ومعقدا، خصوصا اذا كانت هذه التجربة لم تتوفر لها الظروف المثالية، والوقت الكافي من الاستقرار والاستمرار، لكي يكون الحكم عليها موضوعيا ومحايدا قدر الإمكان. الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم واحدٌ من أهم الزعماء، الذين حكموا العراق في مرحلة مفصلية في تاريخه، فهو من أسقط النظام الملكي، الذي حكم العراق بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ولكن بعد مهرجان التنكيل الوحشي بأجساد العائلة الملكية الحاكمة في مشهد محزن ما كان له أن يحدث أصلا.

عانى قاسم خلال النصف الاول من حكمه من صراع واستقطاب وتجاذب سياسي حاد، عصف بالبلاد بين المعسكرين الشيوعي والقومي، حيث ركن الأول بقوة إلى جانب قاسم، بينما اختار الثاني الميل إلى التصادم والمواجهة، اذ تسبب هذا الصراع في انعدام الأمن والاستقرار ووقوع حوادث امنية مؤسفة، كادت تتطور إلى حرب أهلية.
أراد قاسم أن يكون الزعيم القوي، الذي يمسك بجميع مفاصل الحكم، مستندا إلى خبرة عسكرية عميقة، والى شعبية متزايدة ومتضخمة، لكن هذا لم يكن كافيا لوحده لتحقيق ما كان يتمناه من ادامة حكمه، الذي افتقر إلى وجود التشريعات الديمقراطية والحريات السياسية ووجود الأحزاب التي تعمل على الساحة، حيث لم يفضل قاسم الانزواء والاكتفاء بدور الزعيم القوي، الذي يشرف على الحكم، من دون أن يتدخل فيه، كما فعل الجنرال فرانكو الاسباني بالتحالف مع القوى المدنية والسياسية المهمة في العراق وقتها، اذ فضل قاسم الدخول إلى عش الدبابير العراقي المليء والمزدحم بالجثث والصراعات والتدخلات الغربية، التي اختارت أن تغير موقفها منه بعد العام 1959 عندما وطد علاقته بالشيوعيين، واختار الوقوف إلى جانب موسكو علانية، وتجلى هذا الموقف خلال ازمة الصواريخ الكوبيَّة عام 1961، التي اختار فيها الوقوف إلى جانب الروس، وعندها هدد وزير الخارجية الامريكي الشهير جون فوستر دااس وزير الخارجية العراقي بالقول بانه سيحطم راس قاسم ذات يوم وهو ما حصل فعلا بعد عامين من هذا التهديد.
كان العراق طيلة فترة الخمسينيات بلدا زراعيا، والعاملون في هذا القطاع يشكلون أكثر من نصف الأيدي العاملة، ولم يكن البترول يشكل موردا ماليا مؤثرا، مهما كما هو عليه الآن وكانت خطط الحكومة العراقية، تميل إلى الانتقال التدريجي صوب الصناعة، من خلال إقامة حزم من المشاريع الصناعية في مختلف أرجاء العراق وبمساعدة شرقية، حيث كان الدافع اجتماعيا من أجل تنويع الاقتصاد، ونقل المجتمع صوب المدنية، بعد أن شهد الريف موجات نزوح نحو المدن وبكثافة عالية، بعد أن أصبح من المتعذر على هذا العدد العيش على عوائد الزراعة وحدها، وهو انجاز مؤثر يحسب له.
كانت قيادة بلد مثل العراق أمرا صعبا، بسبب التنوع الاثني وكثرة الخلافات والاحتلافات وطبيعة التدخل الخارجي في الشأن العراقي وكانت مثالية قاسم في العمل الامني والاستخباري وعدم ميله إلى انشاء جهاز مخابرات محترف، يدير الصراع مع الدول التي تهدده نقطة ضعف قاتلة بالنسبة له واعتماده على جهاز عسكري ليس مهيأ للعمل الاستخباري، بمثل هذه المواصفات من الأخطاء، التي مكنت خصوم قاسم من مواصلة الضغط عليه واختراق المؤسسة العسكرية والأمنية، التي كان يعتمد عليها في حماية نظامه من الأعمال، التي قادت في النهاية إلى سقوطه بعد ارتكابه لأسوأ خطأ في تاريخه، عندما سمح لخصومه من انصار التيار القومي المعادي له من ضباط الجيش بالعودة إلى أهم وأخطر الوحدات العسكرية وقواعد الطيران، ما مكنهم من تنفيذ الانقلاب عليه، اضافة إلى توجهه المباشر صوب وزارة الدفاع صبيحة يوم 8 شباط لقيادة العمليات، ما جعله هدفا مكشوفا للانقلابيين، بينما كان من المفروض ان يفتح مقرا بديلا مع القادة المقربين منه، ويميل إلى استخدام الوحدات الموالية له باسرع وقت لمنع الانقلابيين من فرض سيطرتهم الكاملة على العاصمة ومن ثم قتله لاحقا.
 خطأ الزعماء السياسيين القاتل في العراق، هو ثقتهم الكبيرة والمفرطة بأنفسهم، وعدم ميلهم إلى تبني المناورة والاستراتيجية في السياسة، وتبني الامور الواقعية فيها، وعدم الانجرار وراء العواطف والشعارات والمثاليات، وهو ما وقع فيه قادة النظام الملكي والزعيم قاسم نفسه ايضا.
كان بامكان قاسم ترميم نظام حكمه من خلال تقاسم السلطة مع شركاء آخرين، مثل تعيين رئيس للجمهورية، اضافة إلى مجلس النواب واختياره لنائبين له على الأقل، وجعل الحكم رئاسيا – برلمانيا، حيث كان لا يميل إلى إجراء اصلاحات دستورية وسياسية، بسبب اقتناعه بأن الوقت ليس متاحا الآن لاجراء هذه التعديلات، نظرا لتزايد الخلافات وانعدام الاستقرار السياسي، الذي لم يكن له مقدرا أن يتوقف، بسبب الضغط الاستخباري والسياسي الغربي والمصري الموجه
ضده.
كان العام 1963 عاما حاسما في مسيرة حكم الزعيم قاسم، ولو تمكن من اتخاذ تدابير احترازية، وقام بإفشال الانقلاب لنجا نظام الحكم من السقوط، وكان من الممكن ان يستمر لمدة أطول، ولربما قام باجراء اصلاحات كانت ستغير ومن وضع العراق السياسي، ولتجنبنا السقوط في فخاخ حكم الانظمة الشوفينية القومية الفاشلة، التي قادت العراق نحو الحروب والخراب والدمار، وصولًا إلى ما نشهده
حاليا.