القراءة المعاصرة لواقعة الطف مسرحيَّاً

ثقافة 2023/07/16
...

  د. سعد عزيز عبد الصاحب
تستمد (السرديَّة الكبرى) (واقعة الطف) قوتها وتأثيرها الدرامي من خلال تعدد القراءات والرؤى التي تستنطق مراكز وهوامش جديدة في متن الواقعة التاريخي لتنحرف البوصلة عن القراءة الكلاسيكية باتجاه نسق قرائي جديد ينفتح على التخوم والهوامش والمقصي والمهمل من حكايات ومواقف وشخصيات وبناء سير افتراضيّة جديدة وأبطالا جددا، فالمؤلف الدرامي بالمعنى المعاصر ليس مؤرخا إنما هو يستنطق التاريخ ويعيد انتاجه لفائدة الوقائع الحاضرة، واستطاع المسرحي العراقي أن يلج هذا المضمار وعكس التراتبيّة التقليدية للشخصيات والحبكات والمفردات السينوغرافية والزمكان في المتن الكلاسيكي للواقعة ضمن ثنائيّة المركز والهامش الفلسفيّة لـ (ميشيل فوكو) وتشظيتها لتشمل كل ما له علاقة تواصليّة على خشبة المسرح ضمن إطار افتراضي معاصر.
 واصبحت الشخصيات الهامشيّة والثانويّة في متن الواقعة كـ (الحر وجون وزينب بنت عامر بن كريز والمختار الثقفي ويزيد ..) تأخذ دور البطولة ومراكز اساسية في بناء الحبكة الدرامية وصارت النهايات الدرامية لهذه العروض مفتوحة بعد ان كانت مغلقة وتنتهي بفاجعة استشهاد الحسين (ع) الذي اصبح لا يأخذ دور البطولة في القراءات المعاصرة لأنّه بطل من نوع آخر، بطل غير متردد او متشكك او ممزق الوعي إنّما هو متوحّد مع ذاته ومع قضيته المركزيّة وهي رفض البيعة ليزيد (والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر بيدي إقرار العبيد، يأبى الله لنا ذلك ورسوله ونفوس أبيَّة وأنوف حميَّة من نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام)، إذن هو ذاهبٌ لمصيره المحتوم الذي خطه بنفسه، ربما هو بطل رومانسي (ثوري) (رسولي) حسب فلسفة (الفداء)  لـ (جان جاك روسو) يفتدي البشريَّة بنفسه وينوب عنها، لذلك هو ينتفي أن يكون بطلا تراجيديا ذلك البطل الهاملتي المهووس بالشكوك المرتكب للسقطات (الهمارثيا) المتردد في الفعل.
فوجد المسرحيون المعاصرون ضالتهم الدرامية في شخوص أخرى نستطيع نحن كبشر أن نتطابق ونتوحد معها في الموقف والمصير كـ (الحر الرياحي) مثلا واصبح مفهوم الشر في القراءة الجديدة ليس طبيعة نهائية راسخة ومتأصلة في الشخصية انما هي طبيعة متغيرة يمكن مناقشتها بـ (مونولوج) داخلي (جواني) للبطل مع ذاته ينتج عنه عنصر الصراع، كما يحدث لـ (يزيد) و(الشمر) و(عمر بن سعد) في المعالجات المسرحية اليوم، وعادت الجوقة المسرحية لتلعب أدوارا متعددة في العروض الطفيَّة ولتكن صوتا يكسر يقين السرد وايهاميته وليس نمطا مرتبطا بالجانب الخير والايجابي فقد تمثل في توظيفاتها الحديثة أعداء الحسين (ع) أو أصحابه أو صوت الراوي العليم، وتعاملها المغاير مع المفردات الاكسسوارية والديكورية منتجة لمدلولات جديدة، فضلا عن عنصر (التعابر الزمني) بين الماضي والحاضر في الرجوع للواقعة وشخوصها، ومن ثم العودة للحظة الراهنة بشخوصها المعاصرين على وفق الفرضية الإخراجيَّة المنتخبة، ومن نماذج العروض ذات القراءات المعاصرة لواقعة الطف مسرحية (على ظلال الطف) نص (بارعة مهدي) وإخراج (علي الشيباني) التي تنبني حبكتها على لعبة افتراضيَّة مفادها أن مخرجا معاصرا يحاول أن يخرج مسرحية
 للإمام الحسين، لكن العجز والاندحار يهيمنان عليه فيقرر المغادرة، وفجأة يسمع نداءً مدويَّاً من خلف القاعة يقول (لبيك يا حسين) ليبدأ العرض من اختيار الرحيل من مكة
ورفض البيعة ليزيد بمشهد بين الحسين وابن عباس معلناً رحيل الإمام الى الكوفة لنشاهد مباشرة صورة مصنوعة بتقنية خيال الظل للسبايا وسط القافلة الراحلة لمصيرها المجهول، يتشكّل النص الدرامي الجديد من مجموعة تناصات او هو بين / نص يتعالق مع نصوص أخرى عالمية كـ (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) لـ (بيراندللو) ونصوص (سعد الله ونوس) وخصوصاً في استنبات شخصيات (المخرج ) و(المؤلف) المعترض على سير أحداث نصّه في القراءة الجديدة للمخرج، وتوظيف تقنية كسر الايهام لإثراء الجوانب العقليَّة والذهنيَّة لدى المتلقي فهذا ممثل شخصية الحر يطلب من المخرج تبديل شخصيته بأخرى مسوغاً طلبه هذا بعدم قدرته على تحمل هذه الثنائية في الصراع ما بين الخير والشر وبين ان يكون مع الحسين او عليه.
فالشخصية الدرامية في عروض ما بعد الحداثة المتمثلة لواقعة الطف هي لا تمثل قناعا نهائيا بين الممثل والشخصية بل تتكئ على وجود مسافة فكريّة بين الممثل والشخصية التي يؤديها تحول من دون الاندماج الكلي وتتحرك فرضية الزمكان بسهولة وبمونتاج بصري وتنتقل من الزمن الراهن الى الكوفة وبالعكس، ينتقي الإخراج اللحظات الدراميّة لا عبر تسلسلها التاريخي الخطي بل بحسب الحاجة الدرامية لرؤية المخرج، فينتفض المؤلف هنا معترضاً على ما يجري، إلا ان المخرج يحاول إقناعه بأنّه يريد تقديم الواقعة كما يراها في أحلامه لا كما حدثت على وفق منطقها التاريخي، وتنفتح القراءة الاخراجيَّة على العلامات الراسخة في الوعي الجمعي في الواقعة لتتحول الى مدلولات أخرى تقترن بالاصل ولكن بشكل ممسرح، فالكناية المنتخبة للطفل الرضيع (عبد الله بن الحسين) في العرض كانت (باقة زهور) تحملها الشخصيات وهي تحميها من النبل، وتتحول الرماح الى شخصيات المعركة وبخاصة اصحاب الحسين في وقوفهم معه واستشهادهم واقفين، ولتتحول الرماح الى يد فنتازية كبرى تدعو الله أن يخرج الحسين من محنته.