الدكتور صالح الطائي داعـيـة الـعـقـيـدة الـعـلـمـي
أ.د. قاسم حسين صالح
تعرّف (العقيدة) بأنها المعلومات التي تربط بالعقل ويتقبّلها ويعتقد بها بنحو قطعي يقيني، فتصبح محكمة ومشدودة ومربوطة، لأنها مأخوذة من الفعل (عقد)، الذي يعني الإحكام والشد والربط كقولك (عقدت الحبل). ويضيف الفقهاء بأن العقيدة الصحيحة، هي الثوابت العلمية والعملية، التي يجزم ويوقن بها المسلم. ويحددون جوهر العقيدة الاسلامية بـ(التوحيد)، الذي اتخذوه عنوانا لعلم العقائد كلها. ويرى آخرون أن العقيدة هي ما يعقد عليه الانسان قلبه، ويؤمن به إيمانا جازما، ويتخذه مذهبا ودينا يدين به.
ويرى فريق آخر بأن العقيدة تعني الإيمان الجازم، والحكم القاطع الذي لا يتطرق إليه شك، وأنها ما يؤمن به الانسان ويعقد عليه ضميره، وتطمئن إليها نفسه، ويتخذها مذهبا ودينا بغض النظر عن صحتها من عدمها.. بينما يرى الدكتور صالح أن العقيدة في اللغة منحوتة من الفعل (ع ق د) في قولهم عَقَدَ البيع، وعَقد اليمين بمعنى: وثقّه وأكده.
ويضيف بأن الاعتقاد هو التصديق، والتصديق هو الإيمان، والإيمان يعطي المعنى الاصطلاحي للعقيدة، ومعناه التصور اليقيني عن الخالق والمخلوق (الكون/ الإنسان/ الحياة/ الموت/ النشور/ البعث الجزاء).
ويتفق معهم بأن جوهر العقيدة هو (التوحيد).
و(العقيدة) لها أكثر من معنى، فهي تعني فلسفيا وسياسيا وتعليميا (أيديولوجية).. أفكارها من اقصى اليمين إلى اقصى اليسار، ومن الغيب المطلق إلى العلم المطلق.
لكن العقيدة إن ارتبطت بالدين فإنها تخص (الله) والكون والوجود والحياة والموت.. وما له علاقة بها وما بينها.
ومع كثير من آراء أخرى بعضها يعتبر العقيدة ضرورة عيش وبعضهم يراها وهما، فإن خلاصة ما يقصده العلماء والفقهاء والدكتور صالح بـ( العقيدة)، هي الفكرة التي يؤمن بها الإنسان وتتجسد في سلوكه، افعاله، تصرفاته.. وطريقة تعامله مع الناس.
وقد تكون الفكرة (العقيدة) صحيحة وقد تكون خاطئة، وقد تكون حقا وقد تكون باطلا.. لكن صاحبها يعتبرها صحيحة وحقا.. ما يعني سيكولوجيا أن المؤمنين بالعقيدة يتوزعون بين صنفين:
الأول، صنف يتطابق سلوكه، أفعاله، تصرفاته مع محتوى عقيدته، سواء ذلك كان حقا (عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب) مثالا، أو باطلا (بن لادن، وابو بكر البغدادي) مثالا.
والثاني، صنف يتناقض سلوكه، تصرفاته، أفعاله مع ما تدعو له عقيدته.. يجسده قادة أحزاب الإسلام السياسي، الذين استلموا الحكم في عدد من الدول العربية، وعملوا بالضد من تعاليم الشريعة الإسلامية بأن استفردوا بالسلطة والثروة.
العقائد.. والحروب الكبيرة
تفيد قراءتنا للتاريخ أن (العقائد الدينية)، كانت هي السبب في نشوب حروب كبيرة راح ضحيتها مئات الملايين.. أفدحها ما حصل بين المسيحيين الكاثوليك والبروستانت بين (1618 - 1648) من حروب، شرسة راح ضحيتها اكثر من ثمانية ملايين قتيل، وآخرها ما حصل في العراق بين عامي (2006 - 2008) واصطلح سياسيا واعلاميا على تسميتها (حرب طائفية)، بينما هي في جوهرها (حرب معتقدات) وصل عدد ضحاياه في يوم واحد من شهر تموز 2007 (مئة) قتيل، ولسبب في منتهى السخافة، ما اذا كان الآخر اسمه
(حيدر أو عمر!).
من هذا الإدراك، كان توجه الدكتور صالح الطائي لإعادة قراءة العقيدة في الإسلام، ومن معرفته الغزيرة بتنوع المعتقدات بين المذاهب الإسلامية.
فعلى سبيل المثال هناك اكثر من ثماني مدارس وفرق اسلامية بينها: المعتزلة، الأشعرية، الظاهرية، الأثرية، المرجئة، الكرامية، الأثنا عشرية.
أوائل من نقد المعتقدات
يعدّ المعتزلة( ظهروا بداية القرن الثاني الهجري في البصرة) من أوائل الذين (تمردّوا) على ما يعدّه كبار علماء المسلمين خروجا على المعتقدات، وأول من قام بتفعيل للعقل الإسلامي في حرية التفكير وتغليب (العقل على النقل)، وأول من تجرأ على نقد العقائد التي تعتمد التقديس والتسليم بما يعدّ تراثا، مستخدمة المنطق في نقد قضايا دينية وحياتية يومية.
وامتازت بأن اعتمدت خمس عقائد: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ويقصد به فكرة الموقف من الحاكم الجائر.. الفاسق هل يجب القيام عليه أو السكوت عنه والخضوع له.
وثاني من نقد العقائد في الإسلام هم (القرامطة)، الذين حظوا باهتمام كبير من الكتّاب العرب والأجانب ووضعوهم في موقفين متضادين:
الأول، يعتبرهم زنادقة وكفرة اعتمدوا عقيدة اخفاء ما يؤمنون به واظهار انفسهم أنهم مسلمون.
والثاني يعتبرهم أول حركة اشتراكية في الإسلام، وأن قرمط .. مؤسس مذهب القرامطة وصف بأن افكاره مشابهة لافكار ماركس.
وأن القرامطة هم (شيوعيو الإسلام) بوصف المفكر الأيطالي بندلي جوزي، بينما نرى أن أفكار قرمط، كانت اكثر عملية في التطبيق من أفكار ماركس الذي جاء بعده بمئات السنين.
وما ميز قرمط (الذي كان يشتغل بترقيع أكياس الطحين وأسس مع ابو سعيد الجنابي دولة القرامطة في البحرين" 855 - 924 م") أنه كان من صنف الذين تتطابق أفعاله مع اقواله في تحقيق العقائد الإسلامية الداعية إلى العدالة الاجتماعية، لدرجة أنه طلب من اتباعه التنازل عن ممتلكاتهم لصالح الجماعة، وأن يتبرع كل واحد منهم بدينار، فاستجابوا لأنهم كانوا واثقين من أنه سينفقها على الفقراء.
والأهم عقائديا وسيكولوجيا في هذا الإجراء، هو أن العقيدة التي تنمّي شعور الجميع بالشراكة في المال، تنمّي لديهم الإدراك بأن القوة الاقتصادية هي السبيل إلى النصر.
وثالث الذين أحدثوا التغيير في محتوى العقائد وطرائق التفكير هم أخوان الصفا (ظهروا في البصرة في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي)، وأعظم انجاز أحدثوه أنهم استوعبوا الفلسفات اليونانية والفارسية والهندية، وعملوا العقل فيها لينتجوا منها فلسفة إسلامية، هدفت إلى التقريب بين الأديان والفلسفة.
وبغض النظر عن مواقف علماء الاسلام التقليديين، الذين وصفوهم بالهرطقة والإلحاد والزندقة، فإن ما يعجبك فيهم أنهم كتبوا في وصف الناس ما يعد سابقة في علم النفس كقولهم في الصداقة:
(واعلم بأن بين الناس من هو مطبوع على خلق واحد أو عدة أخلاق محمودة ومذمومة.. وأن بين الناس من يتشكل بشكل الصديق ويتدلس عليك بشبه الموافق، ويظهر لك المحبة وخلافها في صدره وضميره).
ومن جميل ما قالوا وينطبق على واقعنا الآن: (واعلم أن في الناموس أقواما يتشبهون بأهل العلم ويدلسون بأهل الدين: لا الفلسفة يعرفونها، ولا الشريعة يحققونها، ويدّعون مع هذا معرفة حقائق الاشياء.. وهم لا يعرفون أنفسهم التي هي أقرب الأشياء إليهم).
طبعا، ليس بمستطاع الدكتور صالح الطائي أن يكون مثل الحسن البصري، فيؤسس فرقة ويقيم مجالس في الكوت كمجالس البصري في البصرة.
ولا مثل حمدان بن الأشعث (قرمط) فيؤسس فرقة ويقيم دولة (ويا ويله حتى لو فكّر!)، ولا مثل اخوان الصفا.. فيتسابقون على وصفه بالإلحاد والزندقة والتبشير بأن من يقتله يدخل الجنة.. لكنه يستطيع أن يحدث نقلة أو تغييرا، أو دافعا نحو إعادة النظر بالعقائد في الإسلام ومذاهبه.. بمنظور علمي معاصر وطرح يناسب سيكولوجية الشخصية العراقية.. مع مفارقة مدهشة: أن المعتزلة والقرامطة وأخوان الصفا.. شيعة، وأن الدكتور صالح الطائي.. شيعي ايضا!.. لكن موقفه ومواقفهم من (العقيدة مختلف).
العقيدة.. من منظور الطائي
يتفق الدكتور صالح مع علماء الدين الإسلامي بأن جوهر العقيدة هو (التوحيد).
لكنه يرى أن للتوحيد مباني أساسية يقوم عليها يوجز أهمها باحترام: الذات، والموجودات، والآخر ومعتقده، طالما أنه يلتقي معك في الهدف الأسمى (التوحيد)، بينما يرى في الفرعيات أنها نتاج مسائل معقدة من أهمها أثر الارتباط بالدنيا على الإنسان، إذ يرى أن الأنسان كلما كان قريبا من الدنيا مشغولا بها مهتما بتحصيلها.. كان بعيدا عن روح التوحيد، وكلما وظف هذه المخرجات لاستحصال الخير والمنفعة للجميع دون تمييز، كان أقرب للوحدانية، بل ومنغمسا فيها إلى حد الشوق.
ويجري الطائي مطابقة بين ما قاله وبين نفسه، فيجد أنه (إنسان عقائدي طالما أني وظفت المخرجات لخدمة هدف إنساني لا أبغي من ورائه نفعا شخصيا أو مكسبا دنيويا).
وحين تسأله: وأين تضع عقيدتك في الكون؟
فأنه يجيبك: (الذي أعتقده أنها قربتني من جميع الثقافات، التي أصبحت احترمها مثلما أحترم ثقافتي).
ذلك أن صالح يؤمن أن كل صاحب عقيدة مهما كان نوعها ومهما كانت تصوراتها عن الكون واللاهوت، إنما هو كرة صغيرة وضعتها الدنيا على محيط دائرة عظيمة يقف عليه الجميع دون استثناء، وكل واحد منهم اختار له مسارا محددا يسعى من خلاله للوصول إلى المركز.
ويحدد صالح موضوع الاختلاف في (المركز).. فالآخر قد لا يؤمن بوجود شيء أو قوة عظمى في المركز فيما يقينه هو يدله على أن (الله) هو المركز، ويضع له احتمالين: فإن كان الله يجزي على المشقات التي تحملناها في سيرنا إليه فانه سيكون من الفائزين، والآخر من الخاسرين.
وإن لم تكن هناك قوة فإنه قد يتعادل مع الآخر أو يكون هو خاسرا وخصمه فائزا.. ليصل إلى مبتغاه الإنساني المتحضر بأن العقيدة التي لا تترجم إنسانيتك ليست عقيدة صحيحة، والعقيدة التي لا تجعلك تحترم الآخر (المؤمن والملحد) ليست عقيدة صحيحة.
ويقر الطائي بأن الكهنة ورجال الدين لهم رأي آخر يتقاطع مع هذه الرؤية، وانه غير معني بما يفكرون!.
ويستشهد بما حصل في العراق بعد 2006، معتبرا أن العقائد الصحيحة بريئة من كل ما حصل ولا يد لها فيه، ولا تقره ولا تشجعه ولا تشرعنه بالمرة.
ويصف الذين حملوا السلاح تحت راية (الله أكبر) بأنهم لا يعرفون الله، وأنهم (من أصنام الإسلام السياسي الراديكالي المنحرف، الذي صادر الدين وروح العقيدة).
ويذكّر بأن الذي حصل بالعراق بعد 2006 كان قد حصل في العام السادس للهجرة، وإنه إذا كانت هناك في هذا التاريخ مدرسة واحدة فإن المدارس الأخرى ولدت من رحمها، وتحمل نفس توجهاتها، ولكن بالضد.
ويقرر بأن الذين أيدوا معاوية والذين أيدوا أعداءه.. كلهم واهمون، ولا يرتبطون بروح العقيدة، وقد حاول علي بن أبي طالب أن يوضح لهم وهمهم ولكنهم حاربوه وقتلوه.
القضية الأهم أن الدكتور صالح الطائي الذي وصفناه بأنه (داعية التنوير الإسلامي العلمي) التقط أخطر إشكالية فكرية هي (النص المقدس)، ليحلل ويناقش أثره في صناعة: (عقيدة التكفير، عقيدة التهجير، عقيدة المثلة وقتل البشر، وعقيدة قتل المرتد).
وأنه أثبت أن كل هذه العقائد التي تؤمن بها المذاهب الإسلامية على اختلافها إيمانا منقطعا، وترفض مناقشتها تحت اي ظرف.. لا أصل ولا اساس لها في العقيدة! وأنها ولدت بسبب المماحكة والتنافس بين المذاهب وبتأثير سياسي خالص، قاده الاسلام السياسي.. وتصريحه العلني بـأن (الدين الذي نتعبد به اليوم ليس الدين الذي جاء به محمد، لأنه تعرض إلى كثير من التغيير الذي تسبب في تشويه صورته الإنسانية).
وما نرجوه ونأمله، أن تمنح المنابر الدينية والجامعات الإسلامية والإعلام.. الفرصة للدكتور صالح لإشاعة التنوير العلمي في أخطر سبب راح ضحيته مئات الملايين (العقائد الدينية والمذهبية)، التي لا تزال تهدد العراق بإقامة دولة الخلافة، ولا يزال العراقيون يسكن قلوبهم الخوف والقلق من أن يعيد قدح زنادها من اشعل فتيلها لحظة يشعرون بخطر يهدد مصالحهم وامتيازاتهم وتفردهم بالسلطة والثروة، ليهب لنصرتهم قطعان آمنوا بعقيدة (دينية، مذهبية) دون تفكير، فيفزعون لنصرتهم مع أنهم يعرفون أنهم أفقروهم وأذلوهم.. وتلك هي دعوة الدكتور صالح عبد حسن الطائي، أن نفهم العقائد كما جاء بها صحيح الإسلام، ليعيش العراقيون في وطن يمتلك كل المقومات لأن يعيش أهله برفاهية وكرامة.