العيش في الفرضيّة
تقديم وترجمة: ملاك أشرف
حصلت الشاعرة الإيطاليّة باتريزيا كافالي على درجة الماجستير في الفلسفة من جامعة روما، وبينما هي منغمسة في تعليمات الأكاديميّة وهموم الدراسات المعتادة نشرت تسع مجموعات شعرية فضلا عن ترجمات لمسرحيّات شكسبيرية ومولييرية مهمة في أواخر القرن العشرين؛ مما أفضى بها نتاجها الحقيقيّ الملموس إلى وسام الاستحقاق الفرنسيّ في الفن والأدب ودرجة فارس في الآداب والفنون، لمْ يتوقف الأمر عند الأطروحة في جماليّات الموسيقى أو عند هذه الجوائز، بل تجاوزها إلى ترجمات تنقل إبداعاتها إلى مختلف لغات العالم القوية والفاعلة رغم إتقانها اللغتين الفرنسيّة والإنكليزية إلى جانب لغتها الأم؛ لذا تعد كافالي من أكثر الشعراء المعاصرين تأثيرا في ذلك الوقت وحتى الآن وأحد أكثر الشعراء المحبوبين بين الأجيال الشابة المزهرة شعريا للتو.
مضت كافالي تقول: «إن السُّعداء يبدون لي كأنَّهم مبتذلون/السعادةُ تملكُ طريقةً مُتسعةً في التفكير/ وليسَ لديها وقتٌ للتمعّن/ لا تكف بالطبع عن الحركةِ/ أجدُها مُتكاثفة ومهووسة».لَمْ تقبل ضمائر التملك وبعبارةٍ أدق في لُغتي لَمْ ترضَ أن تجعل الجمال ملكًا لنا؛ لأنّ التملك هو الملل المُدمّر في حدِّ ذاته ولا اعتقد أنهُ يجب المضي قدمًا ويُلقبنا أحدهم بـ (مالك الملل المطاطيّ) الّذي يتّسع كُلّما حدّقنا في شيءٍ وقررنا الاستحواذ عليه كي نمتلكهُ وتخمل الروح إلى الأبد، «أن تنظرَ إلى الجمال ولا تجعله ملككَ أبدًا./ إذا لَمْ يكن الأمر كذلك، كُنتَ تنظر إلى نفسكَ إذن،/ ومن ثمَّ لن يكونَ لديكَ أيّ شيءٍ آخرَ لتلقي نظرة عليهِ..»
تقودنا أشعارها إلى أفكارٍ غريبة وفريدة من نوعها، إذ تهيمن كلمة (الضعف) على قصائدها وقاموسها الحيويّ بشكلٍ مُباشرٍ وغير مُباشرٍ وإن توصلَ النقّاد إلى تحليلٍ قريبٍ من خاصية السديد فغالبًا ما قالوا إن الوعي الشِّعريّ ينشأ بغتةً في لحظات الكسل وكأنّ هذهِ هي اللحظات المقصودة من البيت المُغلق وركنه الخاصّ بلا أفعالٍ مُبرّحة يُمارسها الشّخص، حينها العقل ينجرف والقلب ينفتح فقط، أُرجح هذا الرأي على ما تبقى من آرائهم بشرط أن يكون المعنى وراء هذا التحليل المُختزل هو الوحدة المُتأمّلة والعزلة الرشيدة وليسَ الكسل السياديّ، الاهمال والانغلاق الذاتيّ بمعناه الحقيقيّ.
يجسد شِعر كافالي الحقائق النفسيّة ويصورها بلُغةٍ يوميّة سهلة وغير مُتكلّفة على الإطلاق، إنهُ يميل إلى الاعتراف والسِير الشخصيّة فكم هو مُريحٌ أن يكونَ بينَ أيدينا العديد من أشعارها وكتاباتها الجريئة المُتمركزة حولَ الذّات، الّتي تشرح الطبيعة البشريّة المُعقّدة والقلق الوجوديّ المُزمن بصورٍ في مُنتهى الدقّة والمرونة، ما يجعلني أُعلن ذكاء، حساسية وبصيرة مثل هكذا فئة من الكُتّاب عامّة والشُّعراء خاصّة رغم يقيني بمهارتهم الفطريّة وندرتهم في المشاهد الأدبيّة كافّة وعلى وجهِ الخصوص المشهد الأدبيّ العربيّ فالشِّعر مسؤولية لا رفاهية، ترنيمة تضمر صرخة خفية لا رخصة تبجّحية مُضحكة إلّا أنني واثقة من كون ماهيته فخورة ومُلغزة في آنٍ مُلتبسٍ لا تنكشف ببساطة!
لا أحدَ بمقدورهِ أن يولدَ الشكوك حولَ عبقرية كافالي وموهبتها النزيهة، فالأعمال الشِّعريّة الأصيلة ولاسيّما (قصائدي لن تغيرَ العالم) أثبتت المستوى الفكريّ الواحد في تلكَ القصائد وهو مستوى عالٍ من التكوين المُفاجئ الحميميّ والصوت الشِّعريّ بلا إدراكٍ مُشابه أو إيقاعٍ ساكن، كانت ذهنيتها الفلسفيّة جليةً في أنساق الجمل المُشبعة بالمشاعر المُؤثرة والقوافي غير المحسوسة ظاهريًّا حقًّا.
تبتلعُ كميات كبيرة من الحُبّ، الشوق والحنين كي تنزفَ الآخر بسهولةٍ فمن خلال التفكير الدؤوب بهِ ستكون قادرةً على نسيانهِ، تواجه الخيبات، المُخادعات والإنكارات من أجلِ أن تستمدّ ثباتها النابض الساخر من الأحداث المُنتفخة كذبًا للدفاع عن نفسِها، إن دلَّ الأمر على شيءٍ إنّما يدلّ على رمزيّة الثورة والتمرّد المحمود بعيدًا عن رمزيّة الخضوع والانطواء الخائف المُميت، لكنها قلقة بشأن الخلود والموت ولا تدري عن النرجسيّة المألوفة لدى الشاعر كثيرًا؛ لشحة التجربة المُتورمة أوّلًا وفقر اليقين الأعمى ثانيًا فضلا عن انهزام الأنا المُتوقّع والذي بمثابة العدو الدائم ثالثًا: “الخلود والموت يهددانني:/لا أعرف أيّ منهما/ لن أعرفَ أيًّا منهما”. كانت الروائيّة الإيطاليّة (إلسا مورنتي) أوّل شخص نظرَ في قصائد كافالي مليًّا وبعناية، بعدَ قراءتها اتصلت بها لتقول لها: “باتريزيا، يسعدني أن أخبركِ أنّكِ شاعرة”. حيث كتبتْ قصيدتين في وقتٍ مُبكرٍ من عُمرها ومنذُ نعومةِ أظافرها، إحداهما بعنوان (لو مات كيم نوفاك) والأُخرى بعنوان (أين ثيابي السوداء تلكَ؟)، خيّمَ الحزن على قلبِها الرهيف من أيّامها الطفوليّة والشبابيّة الغامضة الخطرة، لَمْ يتبدّد بعضهُ إلّا بعد تعرفها على إلسا، فهي أخرجتها من التعاسة وجعلتها شاعرة بالمعنى المجازيّ ثمَّ دفعتها إلى اختيار عنوان مجموعتها الإنكليزيّة (قصائدي لن تغيرَ العالم)، تتّخذ كافالي الشِّعر تمرينًا روحيًّا على الدوام والكتابة بوصفِها الذّاكرة الفورية أو الذِّكرَى المُقاومة للتلاشي عندها.
إنّها قرأتْ من شِعر الشُّعراء الّذين تنفتح كلماتهم لتكتنفكَ عندما تأتي إليكَ بدلًا أن تنغلقَ على نفسِها بأنانيةٍ مُفرطة؛ لذا استمرّت في قراءةِ إيميلي ديكنسون، ساندرو بينا وليوباردي، فهي تسير في الشّارع أو بالقرب من المنزل وفي نقطةٍ مُعيّنة يأتونَ لإنقاذها ويبقونها في صحبةٍ حميميةٍ مُميزة لئلا ينهشها الضّجر والألم العميق.أمّا حوارها الذي نقلتهُ الصحفيّة أنالينا بنيني وترجمتهُ عن الإيطاليّة فقد أوضحت كافالي فيهِ شِعريّة الأثاث أو شِعريّة الجماد، مُوضحةً الشأن التأثيثي الشِّعريّ والخفة المنزليّة الموسيقيّة الّتي تحرص عليها كالآتي: “أنا أحبُّ الأشياء هذا صحيح، إذا فكرتُ في موتي، فإنّني - تقريبًا - أشعر بالحزن تجاه الأشياء أكثر من الأشخاص. لن تستقرَ عيناي مرَّةً أُخرى على هذا الكرسي، سأفتقد بهاء المزهريّات، الكتب وألبومات الصور والكراسي الخشبيّة الصغيرة. أحبُّ الاستماع إلى الموسيقى الموجودة في أسطواناتي، أحبُّ أن أنظرَ إلى البيانو الخاصّ بي حتّى عندما لا أعزفه. لا أحد يستطيع نقل أشيائي ولا أحد يستطيع استعارة كتبي”. ما يثير اهتمامي في شِعر كافالي حاليًا هو مجموعتها المعنوّنة بـ (قصائدي لن تغيرَ العالم)، عبثها النفسيّ وتكوينها الاكتئابيّ غير المُستقرّ، الدافع بِها إلى إنتاج مثل هذهِ المجموعة الصادمة والحكيمة بطريقةٍ مُؤلمة، “أخبرني أحدهم/ أن قصائدي لن تغيرَ العالم بالتأكيد./ أجبتُ بالطبع نعم/ قصائدي لن تغير العالم”. في حين صرحت جومبا لاهيري أن قصائدها رُبَّما لا تغير العالم لكنّهم غيّروا حياتها! تبعها دانا جيويا قائلًا إن قصائدها جديدة ومُبتكرة، لا يمكن لأيّ شخصٍ آخرَ أن ينسجَ الكثير من الإنسانيّة في سطورٍ قليلة جدًّا وقصيرة. كسرت الشاعرة البنية الكلاسيكيّة المعروفة واللوحة الرُّومانسيّة المُستهلكة عن طريق مرونة مُفرداتها، سعة خيالها وتركيبتها المُنحازة إلى تفاصيل الحياة اليوميّة الهامشيّة.
****
إنهُ أمرٌ مُنعشٌ في عصر الترويج الذاتيّ في كُلِّ مكانٍ أن تلتقطَ كتابًا بعنوان (قصائدي لن تغيرَ العالم) وهو أوّل مُختارات أميركيّة لباتريزيا كافالي، قصائدها صادقة وأنيقة مثل العنوان تمامًا أي حذرة من التصنع والمُبالغة الفائقة، لا تصل قصائد كافالي بقدر ما تتحقق مثل واجهة عبرَ الضباب، تخبرُ القارئ بما هو موجودٌ تحتَ المُبتذل العاديّ، “كُلّما شعرتَ بالملل، زادَ تعلقكَ” ثمَّ تُتابع قائلةً: “أشعرُ بالمللِ الشديد، لم أعدّ أرغب بالموت!”.
كانت موضوعات أعمالها المُبكرة حاضرة بالفعل: الحياة كإلهاء عن الزمن (الموت)، وجع الشوق والإخفاء وفسيولوجيا الرغبة. تبدو كلماتها نثرًا مُوجزًا خافتًا، بعضه من مقطعين أو ثلاث أسطُر، كتبت عن تقلّص المشاعر وعدم المُبالاة: “يهددني الخلود والموت: /لا أعرف من الاثنين، /لن أعرفَ أيًّا من الاثنين”. و “ماذا يهمني إذا كانَ أنفك منتفخًا ومُرتفعًا جدًّا/ يجب عليَّ أن أُنظفَ المنزل”.
تحدث قصائدها بلا حراكٍ بينما يتحرك العالم، والشّاعر شاهد بلا احتكاك، حيث تعيش كلمات كافالي في فرضيّاتٍ، على وشك حدوث شيء ما سواء أكانَ فقدانًا أو حُبًّا أو نتيجةً مرغوبة: “أنا أمشط شَعري للاسترخاء،/ مُستعدة أم لا/ ها أنا هُنا”. ولاحقًا قالت: “لا تتكلّم في الحُبّ/ لا يمكنني تحمل ذلكَ/ بالنسبةِ للحُبّ/ أريدُ فقط أن أخلقهُ”.
باتت جزءًا من جاذبية كافالي هي العلاقة غير المُعقّدة الّتي تؤسّسها؛ من أجلِ مُحاكاة إيحاءات القصائد الرفيعة، يتسم أسلوب كافالي بالسلاسة والاصطلاحيّة الطبيعيّة من غير مجهودٍ وهذا يتبيّن من خلال الترجمات، إذ لا تكون جودتها الهادئة المُرتخية، والموسيقيّة مُقيدةً أبدًا، على عكس الكلمات الصارمة لأسلاف الشِّعر كالشاعرين أوجينيو مونتالي وبيير باولو باسوليني.
إن هُناك هالةً من فكّ الارتباط في أفضل قصائد كافالي، إنهُ لأمر مُدهش إنهم أيضًا شخصيون للغاية. تكتب كما لو أنها موجودةٌ بمعزلٍ عن العالم، مقيمة خارج الآلة المُملة، ومن ثم قصائدها لا تغدو أبدًا مُنهمكةً في ذاتِها، حتّى عندما تعطينا بيانات بلاغيّة سريعة عن حياتِها الداخليّة: “الحُبّ ليسَ ملكي وليس ملككَ، ولكن الحقل المسيَّج الّذي دخلناهُ/ والّذي سرعان ما انتقلت منهُ/ حيث صنعت منزلي بتكاسلٍ. /أشاهدُكَ من الداخل، أنتَ في الخارج/ تتجولُ مشتتًا في الضواحي/ وتقترب بينَ الحين والآخر للتحقق/ ممّا إذا كنتَ ما زلتَ هَناك، توقفتُ وذهلت”.أخبرَ كافالي أحد المُراسلين ذات مرَّةٍ: “لقد أصبحتُ بالأحرى خبيرًا على درايةٍ بنفسي، يمكن أن يكونَ هذا ولعًا معيّنًا قد نشأَ”. من دون الاعتماد المُطلق على الوجدان، تقوم قصائدها بفحصٍ عميقٍ للذات عندما تتعامل مع الضمائر (أنا أو أنت) عادةً، فإنَّ شِعر كافالي لديه الكثير من القواسم المُشتركة مع المقاطع الضيقة لكاي رايان ومارك ستراند لكن عملها يختلف عنهما في تعامله مع المؤنث، وهو استكشافٌ بلا توخّي الحذر للجنس الأنثويّ ورغبته.تتميز(قصائدي لن تغيرَ العالم) بترجماتٍ من قبل العديد من الشُّعراء المُتباينين البارعين، بما في ذلك: جوري جراهام، جوناثان جالاسي وروزانا وارين.
يتجلّى تنظيمها وكأنَّه مجموعةٌ غريبة من الأصوات إلّا أن خطوط كافالي تظهر رشيقةً بغضِّ النظر عمن يقوم بالترجمة، كما أن ذكاءها الحادّ يبرز من دون عوائق تهيّج السخرية والاستغراب. في The Keeper)) تسلسل قصيدتها الباهر، قصّة رمزيّة عن الحرفة الشِّعريّة والحُبّ الجنسيّ، كتبت: “لم يكن علمًا، لقد كانَ تفانيًا”. كانت تشير آنذاك إلى فتح الأبواب المُغلقة لكنّني اعتبرتُ العبارةَ هي جوهر شِعرها، الذي تخطّى الفيزياء البدائيّة للجنس أو النوع أو اللُّغة.
تدّعي أن قصائدها لن تغيرَ العالم، وهُم يوضحون لنا أنهُ يجب عليكَ الاستمرار والبقاء في اللُّعبة الفرديّة، رُبَّما تجد الفرح وأنتَ تفعل ذلكَ.
الترجمة بتصرف.