رعد أطياف
كل منا يعتبر نفسه مهماً بشكل وبآخر. وهذا شعور ليس سيئاً على نحو الإجمال. ففي نهاية المطاف لكل منّا هوية شخصية يعتز بها على علّاتها! لذا يمكن النظر لهذا الشعور من زاوية محددة، وهي ذلك الشعور المفرط بأهمية الذات على حساب الآخرين. يمكننا أن نشاهد تجليات هذا الشعور في حياتنا اليومية ونشخصه في أتفه الأفكار والسلوكيات؛ ابتداءً من شعورنا الهووي تجاه الهويات الأخرى، وصولاً بتوجهاتنا الفكرية المختلفة ونهاية بتصرفنا كأفراد، بصرف النظر عن هذه التوجهات الهووية المذكورة.
بمعنى حتى لو كنّا أفرادا لا ننتمي إلى عقيدة معينة، سيبقى شعور الأهمية يطاردنا طالما هناك "أنا" جامحة ومتضخمة.
سيوافقك الكثير من الناس على سلبية هذا الشعور، منهم من يتفق بدوافع أنانية، لأنه ينفر من افعال الآخرين المشينة، لكنه يسكت عن أفعاله المماثلة، ومنهم من ينفر منها لأنه لا يتحلّى بها فعلاً، ويسكت عن أفعال سلبية أخرى يتمثّل بها.
والنتيجة؛ دائرة معقّدة من صراع الأنانيات قوامها الدفاع عن وجودها الخاص.
وفي الحقيقة توصلت الدولة الحديثة إلى وسائل إكراه مهمة تكبح جماح هذه الأنانيات وتصهرها في بوتقة الإرادة المشتركة عبر حزمة متنوعة من القوانين تضمن العيش المشترك.
لكن على المستوى الفردي نحن أحوج ما نكون للنظر داخل هذه الذات لفهم حقيقة المعاناة، ذلك أن اقصى طموحات الكائن البشري هو البحث عن السعادة وتجنب المعاناة، لكنه لم يسبر غور السعادة الحقيقية حتى هذه اللحظة.
ربما لأن الشرط الأساس في إيجاد السعادة هو التخلي!؛ وهو التحرر من الرغبات الجامحة التي لا يمكنها التحقق في حياة واحدة! لذلك تعتقد الفلسفة الشرقية أن جميع فعاليات الكائنات لا تخرج عن هذه الثنائية: طلب السعادة وتجنّب المعاناة. لكنّها (الكائنات) تخطأ في طلب السعادة وتقع في فخ المعاناة؛ فما تظنه سعادة هو محض معاناة، لأنها ترتمي في أحضان السعادة المشروطة التي سرعان ما تنتهي بانتهاء شروطها. ويعود السبب في معانتها المستمرة إلى هذا الجهل بحقيقة الظواهر بوصفها امتدادات كمّية متصلة، والاعتقاد الزائف بوجود هويات صلبة تمثل وجودها الأصيل. فثمة كينونة- فراغ خالية من كل أشكال التركيب وعصيّة عن التصور والإنشاء المفهومي هي من تمثّل الطبيعة الأساسية لكل الكائنات؛ فالفروقات والحدود والهويات توجد على صعيد الوجود النسبي فحسب، أما في الحقيقة النهائية- الكينونة- الفراغ- تتلاشى كل هذه الفروق الذهنية.
ذلك أن السماء واحدو مهما أضفينا عليها بعداً جغرافياً! على أي حال، واعتماداً على ما تقدّم، جدير بي كشخص يبحث عن التحرر الحقيقي، أن أبحث عن المصدر الرئيسي لتلك الرغبات المتدفقة، تلك الرغبات التي تساهم في معاناتي، لأنها تذكرني بالزوال دائماً؛ زوال المرغوب وفنائه، فاختلق مكانه رغبة اخرى تكمل المسير.
فارق كبير بين أن أقتني سيارة، وأعلم أنها يوم ما ستنتهي صلاحيتها، وبين جموحي المؤلم لفقدانها، أو تعرّضها لحادث عرضي فتحرك في أعماقي مشاعر الاستياء.
داخل هذه المشاعر الثنائية المضطربة تنبع الكثير من الآلام النفسية وينشأ التعلق: رغبة، وتعلق، فألم.
كلنا متورطون بهذا الداء العضال، ومعظمنا يتجاهله بحكم الاعتياد، والقليل منا يعطي أهمية لهذه الرحلة المهمة والعميقة، لأنها في نهاية المطاف ستسفر عن السعادة.
بيد أن الحياة لا تصطبغ باللون الوردي على الأطلاق، إلا أنها ستمنحنا القوة ورباطة الجأش والعبور الآمن وعدم النحيب والاستياء والرثاء على ما فقدناه، فنحن لا نخسر في هذه الرحلة سوى أوهامنا.
نعم لا نخسر سوى أوهامنا؛ أوهام بقاء كل شيء على ما هو عليه، وتغذية مشاعرنا من هذا الأخير يضخّم الأنا ويشعرها بأهميتها القصوى.