ذكريات مفقودة

ثقافة 2023/07/22
...

 رحيم رزاق الجبوري

اِشتاق إلى سطحِ بيتهم الّذي تركه مُنذ عشرين عامًا قضاها في أوروبا؛ والّتي أكمل فيها دراسته.. بعد أنْ قرَّر أنْ لا يعود إلى بلده؛ مثل كثيرين فضّلوا البقاء في تلك البلاد.
وذلك بعد حصوله على وظيفةٍ محترمةٍ في إحدى شركات تكنولوجيا المعلومات.. يبدو أنّها تفاصيل حياة وأحداث أراد ومن زوايا هذا المكان أن يستعيد ذكرياته الجميلة، بدأ يلفُّ ويدور حول أروقته، بينما كانتِ الشّمس تحطُّ بأوّلِ خيوطها المُشعّة كاشفةً تفاصيل الأمكنة ومُزيلة بقايا الظّلام عنها.
"تنّور الطّين" الّذي كان عامرًا ودخّانهِ الّذي كان يملأ المكان، استرجع بذاكرته تلك المشاهد الجميلة عبر أوّل رغيف خبزٍ يخرجُ من ذلك التّنّور، حيث كان يتسابق هو وأخوتهِ للحصول عليه، ومن هو صاحب الحظّ السّعيد الّذي يناله، ولأنّ في قانون الحياة كان ولا يزال الرّقم واحد هو مُبتغى ومراد الجميع، فكان الشّجار واللّعب هو عنوان وديدن طفولتهم البريئة، تحت أنظار والدتهم الّتي غيّبها القدر.
ثمّ التفتَ إلى أعلى سطح المنزل حيث كانتْ تتجمّع الطّيور الكثيرة، المُتعدّدة الألوان والمُسمّيات والّتي كان أخوه مُغرمًا ومولعًا بتربيتها، لمْ يبق من ذلك القفص الخشبيّ الجميل سوى بقايا أعمدة واقفة عبثًا، تتمايل مع الرّياح حيثما تهبّ، والّذي تضرّر من جرّاء تغيّر المناخ كباقي الأشياء، سقفه العلوي هوى وسقط إلى مكانٍ مجهولٍ، تجتاحه الأتربة من كل جانبٍ، هجرته طيوره، كأنّها تبعثُ برسالةٍ إلى الّذين كانوا يقطنون هذا المنزل.
(عودوا من رحلتكم الطّويلة!).
تنهّد قليلًا، أخرج من جيبه منديلًا، مسح دموعه الّتي سالتْ على خدّيه.
ثمّ مضى إلى الغُرفة المجاورة للسطح، فتح بابها، ألقى نظرةً عابرةً حول زواياها، فانهالتْ عليه تفاصيل وذكريات ما موجود فيها "الدّرَّاجة الهوائية" صدأ هيكلُها وتآكل مقودها، الّتي لطالما حملتهُ وتجوَّلَ فيها.
مستمتعًا بشوارع وأزقّة حيُّهم الشّعبيّ، والّتي نالها جرّاء نجاحه وعبوره المرحلة الابتدائية وقتذاك، حيث انضمّتْ هي الأُخرى مُكرهة لخانةِ النّسيان.
"الفانوس" الّذي قضى معه أجمل اللّيالي، كان رفيقه الأوحد والّذي أعانهُ على القراءة والمُذاكرة، ظهر شاخصًا ومنتصبًا، رغم عدم استعماله لسنينٍ طويلةٍ، رفقتهُ وحكاياتهُ الجميلة الّتي لو استطاع التكلّم لباح بالكثير منها في هذه الظّلمة المُوحشة.
لمْ يستطعْ أنْ يُكمل ذكريات المكان، وكأنّه رجلٌ كفيفٌ قد استعاد نظرهُ بعد سنينٍ طويلة قضاها في الظّلام، ولمْ يكنْ متهيّأ لذلك الكمّ الكبير من صور حياته المُتلاحقة.
نفضَ التُّراب من على ملابسهِ،
ثمّ غادر الغُرفة وأغلق بابها دون رجعة.
امتلأتْ ذاكرته بتفاصيل عديدةٍ من الماضي الجميل تارة والمُؤلم تارة أُخرى.
وقف في آخر رُكنٍ للسطح، هبّتْ نسمة هواء دافئة، بينما كان قُرص الشّمس يعلو شيئًا فشيئًا ليزيد من وضوح شكله الدّائريّ، وليضفي مزيدًا من الألوان على تفاصيل الأشياء، وإذا به يُصعق ممّا شاهدهُ! "فتاة" تحمل كتابًا بيديها، وكأنّها من كوكبٍ آخر!
وجزم على أنّها ليستْ من بني البشر، بل إنّها بحقٍّ تشبه ذلك "القمر"، الّذي يغفو العاشقون على نوره الوضَّاء، قد نزل فجأةً من السّماء تاركًا مكانه، ويريد المكوث في الأرض، تلك العينان الواسعتان، ذلك الوجه الحَسَن، ثغرها الباسم، شعرها الأسود الدّاكن تدلّى وتناثر على تفاصيل جسمها الرّشيق.. خفض رأسه، بدأ يسترقُ النّظر إليها من خلالِ أحد شقوق الحائط المُتهالك، لمْ يستطعْ أن يتمالك نفسه، بدأتْ دقّات قلبه تتزايد، سالَ العرق على جبينه مرورًا بعينيه ثمّ خدّيه، جلس على رُكبتيه مُحدّثًا نفسه ومتسائلًا، بعد أنْ قرّرَ الاستعانة ببقايا ذاكرته المفقودة:
ــ من هذه؟
هل يُعقل أن تكون هي؟
تلك الطّفلة الّتي كانتْ تنظرُ إليَّ، وتقذفني بحبّاتِ التّمر وأشياء أُخرى!
وتشاكسني عندما كُنتُ أتجوّل وأقرأ في السّطح أيّام الدّراسة؟
ردَّ على نفسه مُستغربًا:
ــ لا، لا ليستْ هي؟
صمت للحظاتٍ، قام بحكّ رأسه بإحدى يديه -في إشارةٍ واضحةٍ على مدى ذهوله- ثمّ أكمل حديثهُ مع نفسه:
ــ هي أيضًا كانت جميلة في صُغرها، إحساسي يقول نعم هي تلك، وتلك هي!
بعد ذلك مرقها بنظرةٍ أُخرى ليُعيد تأكيد ما شاهده.
بدأتْ يداهُ ترتجفان، وعاود حديثه مع نفسه، طارحًا تساؤلا واستفهاما آخر؟
وهو:
ــ أتذكّرُ أن عُمرها كان خمس سنواتٍ، وعمري كان وقتذاك عشرين عامًا؟
هل يُصحُّ أنْ أحبّ وأعشق من جديدٍ؟
وعمري الآن قارب الأربعين سنةٍ!
مشاعري الّتي تبعثرتْ في خضمِّ هذه الحياة وإرهاصاتها.. لا أعلم هل استعادتْ مشاعري نشاطها؟
أمْ هي نزوةٍ عابرة، أمْ إعجابٍ؟
أمْ أمْ أمْ...؟
يا الله، يا الله.
كيف أُخاطب تلك الفتاة، الفوارق كثيرة، الحياة اختلفتْ، الظّروف تغيرّتْ، الأمكنة قد أُزيل الكثير من ملامحها، العادات والتّقاليد تبدّد البعض منها والآخر ينتظر دوره.
العُمر وفارق السّن.
كيف أُصارحها وأُبدي إعجابي بها.
أغمضَ عينيه لبرهةٍ من الزّمن، واتّخذَ قرارًا بأن يُفاتح تلك الفتاة؟ ولكن بأي أسلوبٍ وطريقةٍ، فالحُبّ في هذا الزّمان اختلفَ عمّا سبق؟
في كُلِّ شيءٍ، وهو ليس ضليعًا بفنونه وآلياته المُتعدّدة.. فعزم على أن يُخاطب حبيبته المُفترضة بطريقةٍ لطالما تمنّى أن ينفّذها عندما كان شابًا.
أخرج قلمًا من جيبه وقصاصة ورقٍ، وكتب عليها:
"إلى حبيبتي الّتي حلمتُ بها مُنذ سنين طويلةٍ، تركتكِ قبل عشرين سنة، والآن اِستعاد هذا الحُبّ ألقهُ من جديدٍ.
حبيبتي.. عندما تقرأين رسالتي هذه الّتي كتبتُها، ليس اليوم، ولكن مُنذ أن رأت عيني سِحر جمالكِ، عندما كُنتِ طفلة صغيرة.
كمْ أحببتكِ وقتها وتمنّيتُ أن تكبري أمامي، انقضتْ تلك السّنون الغابرة في مخابئ الذّاكرة، أعيدي إليَّ جزءًا منها، وأنا الآن أقولها بملء فمي: إنّي أُحُبّكِ أُحُبّكِ وليكن ما يكن؟
أتمنّى أن يكون الرّد بنفس الطّريقة الّتي راسلتكِ فيها، فاعذريني لأنّني لا أُجيد لغة هذا العصر بالتّواصل والتّخاطب إلكترونيًّا، رغم تخصّصي العلمي فيه.
المُرسل "سِنان". الشّابّ المُغترب الّذي قضى نصف عمره خارج أسوار الذّاكرة؟
تحيّاتي".
وذيّلها بتوقيعه.. وبينما كان "سِنان" يهمُّ بالبحث عن حجارةٍ صغيرةٍ يلفُّ مكتوبه حولها ويقذفها إلى حبيبته؟ سمع صوتًا هادرًا، وجميلًا يُردّد:
ــ "سِنان.. سِنان..".
توقّفَ ذلك الصّوت عن الكلام.
سادَ هدوءٌ عمّ المكان.
وأثناء ما كان يحاول تجميع قواه لكي يقف ويرى مُطلق ذلك الصّوت؟
وإذا بحجارةٍ كبيرةٍ أتتْ على زُجاج نافذة الغُرفة القديمة الّتي تقع قُبالة سطح منزل تلك الفتاة وكسّرته.
دخل ضوء الشّمس السّاطع من خلال تلك الفتحة كاشفًا شيئًا من تلك الذّكريات، ومُعلنًا خروج الجميل منها.
فزَّ على إثر ذلك من نومهِ، قامَ من فراشهِ مُتذمّرًا.. اتّجهَ نحو النّافذة يُلملمُ شظايا الزُّجاج المُتناثر؛ كذكرياته!.