ابراهيم العبادي
لا أحد يلوم المسلمين على انفعالهم الشديد ازاء حرق مقدسهم الاكبر، كتاب الله، فذلك انتهاك خطير لمشاعر وحقوق مئات الملايين من البشر، وتهديد للأمن والسلم العالمي، إنما اللوم يقع على منظومة الحقوق والحريات التي صاغتها حضارة الغرب وجعلتها معيارا وانموذجا للإنسانية جمعاء.
يلوذ الغربيون خلف متراس كبير اسمه حق الرأي والتعبير للسكوت عن تصرفات حمقاء يقوم بها متطرفون، رغم التهديد الكبير، الذي يترتب على هذا النوع من السلوكيات العدوانية.
وتفشل دول الغرب في الدفاع عن سياسة حماية أفراد يهددون العلاقات الدولية، ويهينون مقدسات الآخرين بالإدعاء أن حرية التعبير مقدسة هي الأخرى، وهذا المقدس غير الديني يتقدم على مقدسات أخرى، بينها مقدسات ملايين المؤمنين، غير أنها تنفعل كثيرا وتبدي اعتراضها الشديد، حينما يتعلق الامر بما تسميه خطابات الكراهية والتحريض، وتستنفر أدواتها الحقوقية وسلطاتها القضائية ضد من يسيء أو يحرض على جماعة عرقية أو دينية أو إثنية، بدعوى أن ذلك يهدد العلاقات ويطيح بالأمن والسلم ضمن دائرة المجتمع البشري الكبيرة.
كيف يستطيع الغرب التوفيق بين سماحه بإهانة مقدسات الآخرين وبين منع خطابات الكراهية والتحريض، وبين المحافظة على حرية التعبير والرأي؟.
تبدو هذه التوليفة المتعارضة في دوافعها مثار جدل شديد ومصدر التهديد القادم الذي يعطل التفاهم الدولي.
كان الغرب ولا يزال يعلي كثيرا من فلسفة الحقوق، لا سيما الحقوق الفردية ويرفعها إلى مستوى المقدسات باعتبارها لا تنفك عن انسانية الانسان وحقه في التعبير الوجداني وحرية الضمير، ويجعل كل ذلك حصيلة ونجاحا لمسار طويل من المعارك الحقوقية والفلسفية، التي انتصرت لصالح الانسان الفرد وحقوقه الوضعية في مسعى للانعتاق من أسر الأفكار والمفاهيم الدينية والضغوط الاجتماعية، التي صادرت حقوق الفرد وجعلته خاضعا لمنظومة معايير، أنتجتها سلطة المفاهيم الدينية وتأويلات رجال الكهنوت على طول التاريخ، غير أن المحافظة على خصوصيات الأفراد وفردانيتهم قيدها الغرب في اطار ما تسمح به منظومة القوانين والتشريعات النافذة، فما تعارض مع القانون يصبح خروجا على المسموح به وافتئاتا على السلطات وتعديا على الشأن العام، ويستحق الملاحقة والتقييد والمنع.
ما لم يهتم به الغرب لأغراض غير مفهومه فلسفيا واخلاقيا (لكنها مفهومة سياسيا)، هو الانتهاك الصريح لحقوق الافراد والجماعات التي تختلف معه في اعلاء مقدساتها إلى حد الاستعداد للموت في الدفاع عنها وصونها ومنع التعدي عليها.
لا يشعر الغربيون بالحرج الأخلاقي من إهانة مقدسات الاخرين، أيا كان مستوى التقدير والتبجيل لهذا المقدس، ودعواهم في ذلك أنهم يدافعون عن الشخص لا الفكرة، ويلتزمون بالقانون لا بالمشاعر، ويقدمون الحرية على المنع والتقييد، فهم يمنعون تقييد حرية الفرد، الذي ينتهك مشاعر ومقدسات الآخرين، لكنهم غير مستعدين لمنع الشخص ذاته من التعبير عن (حقوقه)، في ازدراء الكتاب المقدس لهذه الجماعة أو تلك، والتبرير المساق هو التحرك ضمن اطار القانون وما يسمح به هذا القانون، والقانون بطبيعة الحال منحاز إلى الحالات العامة والشاذة، وتبدو بعض الدول مستعدة لدفع أثمانٍ كبيرة دفاعا عن (مقدس الحريات التعبيرية).
ما السبيل إلى حل هذا التعارض الشديد بين المفهوم الغربي للمقدسات ومفهوم الشرقيين لمقدساتهم؟.
من التجارب الماضية يمكن القول إن الغرب تعامل باستخفاف شديد مع الحالات، التي تسيء إلى مقدسات الشرقيين، لا سيما المسلمين منهم، فمنذ حادثة سلمان رشدي عام 1989 ثم الرسوم المسيئة إلى الرسول محمد (ص)، والتي تورطت بها الدانمركي كورت فسترغارد عام 2005؟ ثم مجلة شارل ابدو الفرنسية عام 2014 ثم تحركات القس الامريكي تيري جونز، الذي تجرأ وأحرق القرآن عام 2013، حتى تكررت حوادث الحرق التي قام بها بلودان الدانماركي - السويدي، واخيرا حادثة سلوان موميكا العراقي الأصل في السويد، ومن كل ذلك يتبين أن الأعم الأغلب من هذه الاعتداءات توجهت إلى مقدسات المسلمين، وفي جميع الحالات كان رد الفعل الاسلامي في غاية الانفعال دونما انتباه إلى الفروق المجتمعية والفردية بين السلوك الشرقي والغربي، ولماذا يعمد بعض الأفراد هناك إلى هذا السلوك العدائي الصاخب؟، لاشك أن هناك اختلافا في الفروق الفردية والمجتمعية، وكيف يعزو كل طرف الامور وتفسيرها بين أفراد ومجتمعات الغرب ومجتمعات المسلمين!.
وكيف يفسر ويعزو كل طرف هذه الاحداث الخطيرة، أنه اختلاف الرؤية الكونية والخلفيات الدينية والفلسفية بين الطرفين، وهو اختلاف فاحش سيستمر طويلا ويحتاج إلى رؤية شاملة لادارته وتقليل خسائره قبل أن يتحول
إلى حرب.
الغربيون يتحدثون عن معايير وضعوها لأنفسهم وصارت (عالمية)، بقوة النفوذ والعولمة السياسية والثقافية والاتصالية، والشرقيون لا سيما المسلمين يرون الأمور من منظور المؤامرة، التي يرسمها الغرب الكافر المستعمر ضد دينهم وبلدانهم ومجتمعاتهم، وحيث يرتكب الغرب الآن خطيئة الدفاع عن (حقوق) المثليين ويحميها بقوة القانون، يشعر المسلمون أن مهمتهم في الدفاع عن القيم الدينية صارت تكليفا الزاميا لصد الزحف الغربي غير الأخلاقي، وهنا يقع الالتباس الكبير، أو التلبيس المتعمد حيث يبدو الصراع على أشده بين القيم الروحية وبين القوانين، التي تشرعها برلمانات بضغط من قوى اليسار المتطرف ومنظمات الجندر والجنسانية الجديدة وجماعات الحقوق الساعية إلى اضفاء الشرعية على سلوكيات، تتعارض مع القيم الفطرية البشرية العامة ولا تلتفت للشواذ ومطالباتهم وحقوقهم المزعومة.
إن التعدي على القرآن ومقدسات المسلمين، سيتحول إلى ممارسة استفزازية متكررة في دول الغرب، ما لم يصر إلى موقف تشريعي محمي بمطالبة اممية وضمن ميثاق الأمم المتحدة، فالسلم الدولي سيتعرض للتهديد بسبب التعارض بين (مقدسات) الغربيين الوضعية، ومقدسات الشرقيين الدينية الراسخة، ولحماية علاقات الأمم والشعوب والسلم عموما لا بديل عن تدخل الامم المتحدة، كما دعا إلى ذلك الإمام السيستاني في رسالته إلى السكرتير العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيرش بتاريخ 29 حزيران 2023،
بغير ذلك فإن جميع متطرفي الدنيا سينتهزون الثغرات القانونية، ويستفيدون من الفضاء الحقوقي والثقافي والسياسي والحماية الدستورية لاستفزاز المسلمين اسبوعيا، فقد صارت مغامرة حرق القرآن ممارسة مثيرة، تستحث انفعالا وغضبا يستجر فعلا متكررا، ولن ينفع حرق سفارات الغربيين ولا طرد دبلوماسييهم.